إلى أين وصل الغزو الغربي في المغرب؟

04 يوليو 2022 17:57

هوية بريس – إبراهيم الطالب

قبل أن نبدأ تحرير الإجابة عن سؤال العنوان يبدو من المهم جدا أن نمهد بما يشبه المقدمات التي ينبغي للباحث أن يُمهد بها لضبط البحث وتأطير الفهم وتركيز الاستنباط واستخراج النتائج ومنها:

1- التاريخ خط مستقيم متواصل مستمر في سيرورة حركية دؤوبة لا يمكن أن تتوقف فجأة أو أن تنقطع.

2- الصراع بين دول الغرب والمسلمين صراع مستمر بين حضارتين منذ استطاعت الدولة الإسلامية أن تُخضع حضارة الروم والفرس، وتحكم العالم بالعدل والحق، فلن تسمح الحضارة الغربية برجوع الإسلام إلى سدة الحكم ولو اقتضى ذلك حملة عسكرية توسعية “استعمارية” أخرى.

3- أن الحرب العسكرية هي الصورة الظاهرة للصراع الحضاري ولا يُلجأ إليها إلا عندما يستحيل التحكم في المستَهدَف، وذلك قصد تحطيم مراكز القوة في كياناته.

انطلاقا من هذه المقدمات سنحرر الكلام عن الحالة المغربية خلال القرنين الماضيين (من 1800م إلى 2022)، وقبل ذلك يحسن بنا -رغم الإطالة- أن نسرد أهم الأحداث التي جرت خلال هذين القرنين وذلك حتى نستعين بها في فهم أهم محطات السيرورة التاريخية التي نعيش حالتها الراهنة اليوم.

أهم الأحداث التاريخية:

1- طاعون عام 1799-1800 والذي عمَّ جميع البلاد، وتتحدث بعض المصادر أنه قتل نصف سكان المغرب.

2- معركة إيسلي في 14 غشت 1844، والتي كانت أهمَ أسبابها مساعدةُ السلطان المولى عبد الرحمن للمقاومة الجزائرية ضد فرنسا، ودعمُه للأمير عبد القادر الجزائري بالمال والسلاح والرجال والإيواء في الأراضي المغربية، الأمر الذي دفع فرنسا إلى شن حرب على المغرب، بدأتها بقنبلة ميناء طنجة، حيث قتلت دفعة واحدة 155 مغربيا، ثم قصفت ميناء تطوان وميناء أصيلة كما احتلت ميناء الصويرة؛ التقى الجيشان قرب وادي إيسلي وفي لحظات تم سحق الجيش المغربي المعتمد على التنظيم والسلاح التقليديين من طرف المدفعية الفرنسية والجيش الفرنسي المنظم، وقد اعتمدت فرنسا في حربها منذ البداية سياسة الأرض المحروقة مخلفة آلاف القتلى من المدنيين.

أعقب هذه الحرب المُهلكة توقيع اتفاقية طنجة في 10 أكتوبر 1844، واتفاقية للا مغنية في 18 مارس 1845، بمدينة مغنية الجزائرية، وقد وقَّعها من طرف المغرب الخائن المرتشي حميدة الشجعي عامل وجدة آنذاك، والتي تركت الحدود الجنوبية بين المغرب والجزائر دون تحديد، بدعوى أنها أرض خالية لا تحتاج إلى رسم للحدود أو توضيحها، الأمر الذي استغلته فرنسا فيما بعد للتوسع في الأقاليم الصحراوية الشرقية.

هزيمة المغرب في معركة إيسلي جرَّأت الدول الإمبريالية عليه، حيث قامت إسبانيا في 1848 باحتلال الجزر الجعفرية ووسعت نفوذها انطلاقا من سبتة ومليلية المحتلتين، مما أدى إلى معركة تطوان (1859-1860) والتي سيكون لها العواقب الوخيمة على استقرار المغرب كما سنرى.

3- معاهدة بريطانيا سنة 1856 والذي يهمنا منها شقها التجاري، حيث كانت الدولة تحمي الاقتصاد المغربي من التدخلات الأجنبية خصوصا مع التطور الذي طرأ على الاقتصاد العالمي الذي برزت فيه الرأسمالية كمنظومة مهيمنة في النظام الدولي الجديد بعد التشكلات النهائية التي أعقبت الثورة الفرنسية والاكتشافات الجغرافية وتصفية آثار التوسعات النابوليونية.

فبعد هذه المعاهدة خصوصا شِقها الثاني المكون من 8 مواد؛ تم تحديد التعريفات الجمركية بنسبة 10 في المائة، الأمر الذي ألغى احتكار الدولة، وأعطى الحق للإنجليز في ممارسة التجارة بالمغرب بكل حرية دون أمد محدد ولا مكان معين، وحَدَّ من مراقبة السلع البريطانية، كما أصبح للإنجليز الحق في تملك العقارات في المغرب، وأعطتهم الحق في منح الحماية القنصلية للأفراد.

لقد كان لهذه الاتفاقية آثار وخيمة أخرى تجلت في اضطراب الاقتصاد المغربي والمبالغة في تصدير المواد الفلاحية المغربية إلى أوروبا واستيراد المصنوعات الأجنبية الأمر الذي أدى إلى إفلاس قطاع النسيج وقطاعات أخرى، كما نتج عنه غلاء في الأثمان وإضرار بمختلف طبقات الشعب.

4- حرب تطوان في سنة 1859-1860 بين المغرب وإسبانيا والتي كان من أهم نتائجها احتلال تطوان الذي استمر لأكثر من سنة رغم توقيع معاهدة الصلح يوم 26 أبريل 1860م، وذلك بعد استسلام المغرب إثر الهزيمة، وقبول أداء غرامة 100 مليون بسيطة لإسبانيا، واستنادا لهذه المعاهدة قامت هذه الأخيرة بتوسيع حدود نفوذها بسبتة، كما حصلت على حق الصيد بالجنوب المغربي (سيدي إفني)، وضغطت بقوة لكي تحظى بنفس الامتيازات التي مُنحت لبريطانيا سنة 1856 وقد تم لها ذلك، فقوي الحضور الأجنبي وتم اختراق كل البنيات الاقتصادية والاجتماعية.

ولأداء الغرامة الظالمة المذكورة، اضطر السلطان إلى إحداث جبايات جديدة بالإضافة إلى اقتراض مبلغ 10 ملايين بسيطة من إنجلترا؛ ولم يقبل الإسبان الجلاء عن تطوان إلا بعد توقيع الاتفاق المعقود في أكتوبر سنة 1861، والذي سمح لهم بتثبيت موظفين في بعض الموانئ المغربية لاقتطاع نسب معينة من العائدات الجمركية لفائدة حكومتهم؛ وقد وصل المبلغ المالي الذي التزم المغرب بأدائه إلى 119 مليون بسيطة، تم أداؤه بالعملة المعدنية الخالصة من قطع الذهب والفضة، الأمر الذي شكل كارثة على الاقتصاد المغربي المتهالك، نتج عنه نزيف حاد في خزينة الدولة تمثل في توالي القروض وفوائدها الربوية.

وبالإضافة إلى هذه الآثار المدمرة لحرب تطوان تم كذلك اغتصاب جزر إشفارن المغربية، كما استحوذت الدولة الغاصبة على أراضي ما أسمته “سانتا كروز دي مار بيكوينا” الصغيرة والتي ستسمى مدينة سيدي إفني لاحقا، وذلك قصد تشييد مصايد للأسماك.

ويمكننا أن نستشف فظاعة الحالة ومقدار الذل الذي لحق المغرب بعد هذه المعركة المشؤومة من وصف المؤرخ أحمد بن خالد الناصري رحمه الله في قوله: “ووقعة تطوان هذه هي التي أزالت حجاب الهيبة عن بلاد المغرب واستطال النصارى بها وانكسر المسلمون انكسارا لم يُعهد لهم مثله، وكثرت الحمايات ونشأ عن ذلك ضررٌ كبير”.

لقد تضافرت آثار كل من معركة إيسلي 1844 ومعاهدة 1856 مع بريطانيا وحرب تطوان 1859-1860 وما تلا ذلك من توسيع الحمايات القنصلية وتنامي النفوذ الغربي في المغرب، ليصنع ظروفا عجلت بفقدان المغرب لسيادته، واضطراره إلى عقد معاهدة الحماية في سياق تاريخي دولي تطوَّر ليشمل سقوط الخلافة الإسلامية، ودخول كل البلدان الإسلامية تحت نير الاحتلال الأجنبي خصوصا الفرنسي والإنجليزي الذي طال أغلب ربوع العالم الإسلامي.

من هنا بدأت عمليات إعادة تشكيل الدول والمجتمعات الإسلامية على حد سواء، وما يهمنا هنا هو حالة بلاد مراكش كما كانت تسمى دوليا، فمنذ عقد الحماية 30 مارس 1912، بدأت يد الاحتلال الفرنسي في صناعة واقع مغربي جديد، حيث توالت القوانين لتنظم كل القطاعات بالموازاة مع انطلاق المشاريع الكبرى في كل المناطق التي أخضعتها خلال ما سمِّي حينها “حروب التهدئة”، والتي لا تعني سوى حروب فرنسا التوسعية وإخضاع الأهالي المغاربة للنفوذ الفرنسي باسم السلطان وقمع الإرهاب والإرهابيين الذين أصبحوا بعد الاستقلال زعماء الجهاد والمقاومة من أمثال ماء العينين وأحمد الهيبة وأخيه وموحا وحمو الزياني وأحمد الحنصالي، وعبد الكريم الخطابي، رحم الله الجميع.

وخلال 44 سنة والتي تمثل عمر الاحتلال الرسمي، تم الاشتغال العلماني الغربي في المغرب على ملفات كبرى لا تزال كلها مفتوحة تتطور باستمرار إلى يومنا هذ،ا مؤثرة تأثيرا بالغ السلبية على كل مشروع تنموي وإصلاح سياسي منها:

عطيل الحكم بالشريعة الإسلامية واستبدالها بمنظومة قانونية وضعية مستوردة من فرنسا.

2- بناء دولة حديثة على أسس علمانية تتبنى الليبرالية نظاما سياسيا واقتصاديا، لا يحل حلالًا ولا يحرم حراما.

3- خلق أقلية نصرانية من المغاربة من خلال إطلاق يد المنصرين وبناء المراكز والكنائس لتربية وتعليم المغاربة وخصوصا الذين يعيشون وضعية أسرية صعبة.

4- انتهاج ما سمي بالسياسة البربرية والتي توَّجها المقيم العام لوسيان سان بإصدار الظهير البربري 16 ماي 1930، وتأسيس ملف للأمازيغية لا يزال مفتوحا ويتطور إلى اليوم ويهدد بالانقسام والتجزئة العرقية.

5- إنشاء قضاء فرنسي يحكم بين المغاربة في كل القضايا التي كان يحكم فيها القضاء الإسلامي، ومحاصرة القضاة والعدول بعدم إدراجهم في سلك الموظفين والإلغاء التدريجي لأحكام الشريعة الإسلامية من خلال بناء محاكم فرنسية وإعطاء أحكامها القوة النافذة وإجبار المغاربة المباشر وغير المباشر على التحاكم إلى القضاة الفرنسيين.

6- حرب اللغة العربية والتمكين بدلها للفرنسية وللهجات الأمازيغية.

7- تقنين الدعارة والقمار وصناعات الخمور وإدماج مداخيل ذلك في تمويل الخزينة العامة…وغيرها.

8- نزع أجود الأراضي من يد المغاربة بالقضاء الفرنسي الغاشم وقوانين نزع الملكية ومساطر التحفيظ العقاري الغاشمة.

9- الاستحواذ على خيرات البلاد من خلال استخراج المواد الأولية والمعادن النفيسة مثل الذهب والفضة والمعادن الأساسية كالحديد والفوسفات، والتحكم في السياسة الاقتصادية في تهميش كامل للسلطان والمخزن الذي صار مجرد مُوقع على الظهائر والقوانين حتى يكسبها شرعية قانونية أمام الدول الكبرى الأمر الذي كان يعتبر ضروريا تنفيذا لمعاهدة الحماية الفرنسية والتي تنص على عدم المساس بسلطة السلطان.

10- بناء نظام تعليمي فرنسي يروج للثقافة الفرنسية ويعتمد مقررات تغريبية ماسخة للهوية المغربية، ومع ذلك لم يكن المغاربة يحظون بشهادة الباكالوريا، وكانت المدارس تكتفي بمنح المتفوقين منهم والذين كانوا يدرسون مع الأجانب شهادة تثبت متابعة التلميذ للدروس الثانوية، وذلك لتحول دون متابعة المغاربة للدراسة في الجامعات والمعاهد العليا، الأمر الذي أثر في إيجاد النخبة المغربية المتعلمة حيث كان يضطر المغاربة الموسرون إلى إرسال أبنائهم إلى الخارج لنيل شهادة الباكالوريا ومتابعة الدروس الجامعية في الخارج.

هكذا تمت إعادة تشكيل الواقع المغربي السياسي والديني والثقافي والاقتصادي والاجتماعي الذي نعيشه اليوم، فهل تم إصلاح ما أفسدته العلمانية الغربية بجيوشها ونظمها وثقافتها، بعد ما سمي بالاستقلال؟

رغم محاولات العلماء والنخب المحافظة لم يستطع المغاربة إصلاح كثير مما أفسده الاحتلال نظرا لوجود وكلاء عنه يحمون مصالحه خصوصا وأن الاستقلال كان مشروطا بحماية المصالح الفرنسية في المغرب، والجواب من خلال الواقع نفسه:

– اقتصاديا: لم نستطع الاستقلال عن الغرب اقتصاديا، فالمغرب لم يحقق اكتفاءه الذاتي في أي مادة حيوية، ولا يصنع سلاحه ولا دواءه بل ليس له الاكتفاء حتى من القمح والحبوب وهو البلد الفلاحي، أما ماليته فمرهونة لدى البنوك الدولية، وسياسته النقدية يتحكم فيها صندوق النقد الدولي، كما لم يتم إلغاء القوانين المنظمة للقمار وإنتاج الخمور وبيعها، ناهيك عن التوسع في تجارتها وفي تربية الخنازير وتسويق لحومها، أما النظام المالي فلا يزال مرتهنا للنظام الرأسمالي الربوي، ويتحكم فيه الرأسمال الأجنبي.

– سياسيا: هناك إفلاس تام بحيث لا الديمقراطية المعطوبة نجحت في حل معضلة التداول السلمي على السلطة، ولا تم الرجوع إلى سياسة المخزن الشريف، فالوضع هجين ملتبس متناقض بين حكومة منتخبة لا تشكل فيها الأحزاب السياسية وزنا، وأغلبها وظيفية وأقواها غير مرغوب فيها من طرف الغرب، ولذلك ستبقى مرفوضة أيضا من طرف من يُشخص مصلحة النظام، وبين حكومة ظل هي أقوى الحكومتين والتي تمتلك الحق الفعلي في الحسم واتخاذ القرارات.

الأمر الذي يجعل التغيير ينصب فقط على المستوى الاجتماعي:

– اجتماعيا: يتم جرُّ الشعب المغربي نحو العلمانية المتطرفة المعادية للدين، وذلك بفرض شرائع الاتفاقيات الدولية وتبديل ما تبقى من القوانين موافقا للشريعة الإسلامية، حيث هناك مطالب برفع التجريم عن الزنا واللواط واستهلاك الخمور، ودعوات لتحرير الإجهاض والدعارة، كل هذا دون أن نحرز لا نموا على المستوى الاقتصادي ولا هيكلة مؤسسية قوية على المستوى السياسي تضمن سيادة الحق والتوزيع العادل للثروة.

– أما ملف الأمازيغية فلا يزال يشكل تهديدا حقيقيا للحمة المغربية وتستغله اليوم الصهيونية في التغلغل في مفاصل الدولة والشعب المغربيين، بل هناك فصائل تصرح بالعداء التام للدين وللعروبة والولاء المساندة الصريحة للكيان الصهيوني.

– أما على مستوى اللغة العربية فقد تم التراجع عن مشروع التعريب وإفشاله، لتحتل الفرنسية محل السيادة اللغوية من جديد وكأن التاريخ المغربي يأخذ الاتجاه المعاكس زمنيا.

للأسف لم يبق حيز للمزيد من التحليل والبسط فحجم المقالة لا يتسع وأرجو أن لا أكون قد أخللت بالمقصود.

أما الخلاصة فهي أننا نحتاج إلى رؤية جديدة للوضعية الحالية التي نعيشها في المغرب، فكل المشاريع التي وضعها الغرب في المغرب خلال القرنين الماضيين لا تزال مفتوحة وتحقق أهدافها في طمس كل معالم الهوية المغربية، بل انضاف كل هذا ملف التطبيع لندخل مرحلة ما بعد الارتهان لأوروبا، والذي تلعب فيها أمريكا ودولة الصهاينة الدور التقليدي الذي كانت تلعبه فرنسا وإسبانيا.

فهل سيقوم بواجبهم أحفاد الخطابي والحنصالي وماء العينيين ومن قدّموا أرواحهم من أجل شعار الله الوطن الملك الذي وضعه الفدائيون والمجاهدون والنخبة الوطنية، كدلالة على الشريعة الإسلامية وعقيدة التوحيد، والحفاظ على الثغور المغربية واسترجاعها من يد المحتل والحفاظ على الحكم السياسي السلطاني وليس العلماني؟

وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.

آخر اﻷخبار
2 تعليقان
  1. الحمد لله والشكر لله، على كل الحال،
    ما استنتجته هو هذا العمل الجبار الغاشم الذي مارسه الإنسان الغربي الصليبي على الشعب المغربي المسلم منذ اكثر من قرنين من الزمن؛ و ما زالنا و مازالت مظاهر و سلوك الشعب مسلمة سنية و الحمد لله.
    للعودة للمجد و الحرية فلابد ان نبدأ من حيث وقف الأجداد اي قبل الطاعون، و هي التعليم و البحث العلمي و الاستقلالية الفكرية و دراسة التاريخ خصوصا المرابطي و الموحدي و جعله قدوة و مثل لشباب.

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M