إنسان الأسرة

19 أكتوبر 2021 12:06

هوية بريس-د.محمد خروبات

(إنسان الأسرة[1])              

 

الأسرة هي الخلية الأولى في المجتمع، هي نواته الصغرى التي يقوم عليها كيانه… أي خلل يصيب الأسرة ينعكس على المجتمع سلبا وأي صلاح وصواب يمس الأسرة إنما يعود على المجتمع بالإيجاب، لذلك فتقدم مجتمع ما رهين بسلامة الأسرة فيه، وتخلف مجتمع ما وانحطاطه رهينان بفساد الأسرة فيه…

لقد اهتم الإسلام “المجتمع” في أسرته، واهتم “الأسرة” فيه فقعَّد قوانينها وأرسى دعائمها على أسس مستقرة ثابتة ورصينة، وشرع الزواج كوسيلة لوجودها، واهتم به بأن جعل أصله ميثاق يربط جميع الأطراف، وحدد لهم حقوق وجعل عليهم واجبات.

مر المجتمع ومرت الأسرة معه بأدوار وأطوار تاريخية يهمنا أن نقول عنها أنها كانت “مشرقة”، لكن اليوم وأمام التردي الذي وقع فيه المسلمون، والتخلف الذي جنوه لأنفسهم أمام هذا كله ينهار الإنسان يوما بعد يوم، وتكثر التحديات ساعة بعد أخرى، وتتعدد الأزمات وتتفاقم، لذلك أولينا العناية لهذه التحديات بصفتها تحديات جارفة تمس الأسرة في جميع أطرافها: الأب والأم والطفل، بحثنا أنواعها وألوانها، أقسامها وتياراتها، عارضين لأعلامها وبناة حقلها، معرجين على أصولها ومصادرها راصدين لمناهجها وطرق عملها، متوقفين عند الغايات التي تنشدها والمرامي التي تقصدها.

إنها تحديات خارجية وداخلية، حضارية وتربوية وقانونية، تتطلب يقظة شاملة ووعيا كاملا، ولا يتحقق ذلك إلا بالاعتصام بالمقومات والمبادئ والأصول مع العمل المشترك الناجح والتربية الهادفة: (ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون) آل عمران 78.

نعلم أن الأسرة مفهوم مشترك بين جميع الأطراف، الكل اليوم يتكلم عن الأسرة: يسار ويمين، شرق وغرب، نساء ورجال… وهذا يبين ما يلي:

  • أن وضع الأسرة غير طبيعي… حينما يكثر الكلام على قضية ما ويشتد فليعلم أن في القضية إشكالا ما إما لها أو عليها.
  • إن الموضوع المتكلم فيه هو خاصية مشتركة بين الجميع، خاصية موحدة على مستوى البحث والدرس والكلام، ومن هنا تتأكد أهمية الأسرة عند الكل.

ج-  أصبحنا اليوم أمام موضوعين لا موضوع واحد، موضوع الأسرة كمجال للبحث، وهذا (الكلام) المتعدد المتلون والذي أصبح هو في ذاته عائقا أمام التوصل إلى نتيجة سليمة في موضوع (الأسرة)، حين يتحول الكلام في موضوع إلى موضوعات بحث تتضاعف الأزمة وتتركب.

ليس من المهم عندنا –على الأقل في هذا البحث- الكلام عن الأخطار التي تهدد الأسرة في هوائها وأكلها وشربها وأثاثها ولباسها وأواني بيتها… لكن المهم عندنا هو أن ننبه إلى الأخطار التي تهددها في (إنسانها) حيث يستل الإنسان منها لتُضْفَى عليه حللا جديدة من النعوت والأوصاف، يراد لهذه النعوت والأوصاف أن تكون حقيقة وأن تتجذر بقوة في الوعي وفي اللاوعي، ويتبع ذلك كله بتحليلات ودراسات وأبحاث بأرقام وقياسات رياضية وهندسية معززة بصور ومزكاة من مناهج العلوم الإنسانية والطبيعية… هذا كله ليصبح إنسان الوصف الجديد على استئناس كامل بما يقدم له وعليه.

تأتي الجغرافيا لتتكلم عن إنسان البيئة والطبيعة، ويتكلم الاقتصاديون عن إنسان المال والأعمال، ويتكلم السياسيون عن إنسان السياسة والديبلوماسية، ويتكلم السوسيولوجيون عن إنسان المجتمع، ويتكلم الفلاسفة عن إنسان النظر والتأمل، ويتكلم الأدباء والشعراء عن إنسان الكلمة والخيال، ويتكلم الفنانون عن إنسان الإبداع والابتكار، وتتكلم العلوم الطبيعية عن الإنسان الطبيعي الذي هو جزء من الطبيعة كما يتكلم القانونيون عن إنسان الديموقراطية، والإداريون عن إنسان الإدارة والتسيير… هكذا يجزء الإنسان إلى أشلاء وأطراف لا رابطة بينها وتتيه خصوصيته وسط ركام من الكلام، قد يحقق هذا شيئا حضاريا ما للإنسان أو توجيه الإنسان إلى إنسانيته.

هذا كله لا يوجد فيه عيب من حيث الظاهر لكن العيب المركب حين تصاغ هذه النعوت والأوصاف بفلسفة من مرجعية غريبة ومن إيديلوجية خارجية لها طموحاتها الخاصة، ومطامعها الخاصة، وأهدافها الخاصة تصوغ الإنسان على وفق مصالحها ومطامحها.

فإنسان الديمقراطية مثلا هو الإنسان المخلص للمواثيق العالمية والقرارات الدولية لحقوق الإنسان، و(الديموقراطية) مفهوم يسري بين اليهود والنصارى والمجوس، تتحقق بين إنسانهم ولإنسانهم في أسمى صورها، لكنها حين تأتي إلى إنسان الإسلام تنعكس، ليصبح العمل بنقيض الديموقراطية هو الديموقراطية، ولا نريد أن نمثل على هذا بشواهد حية عن القوانين الجائرة التي تسحق الإنسان في بقاع العالم، كما لا نتكلم عن الإملاءات والضغوطات على الحكام العرب والمسلمين لسحق البقية المتبقية من إنسان الإسلام، مع التضييق الشامل والكامل على البقية المتبقية من المبادئ الإسلامية التي تصوغ الإنسان… ومعلوم أن كثيرا من هذه الدول توقع على الكفر والإلحاد والتدمير وهي مرتاحة، بل منها من يفتخر بذلك، ويجهد نفسه بإقناع الغير بذلك.

قواعد حقوق الإنسان أصبحت ملزمة على كل من وقَّعَ عليها، وكما يقولون: من وقّع وقع، وجرى تطور في الفقه الدولي بما يخدم مصالح الدول الغربية الكبرى مثل الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها الكبار، وأصبح لدى هذه الدول مصالح انتقائية وازدواجية تجاه الغير، وأصبح التركيز على (إنسان الديموقراطية) و(حقوق الإنسان) أكثر فأكثر، وتجزأ ذلك، وأخذ أبعادا أخرى من ذلك أنه اتخذ سلاحا ضد كل محافظ على هويته، وكل (عاق) لهذا النموذج العالمي المتسلط، ولم يعد الكلام على النظر فيما يخالف المبادئ والخصوصية في غالبية كل بلد مسلم بل انعكست الحالة إلى النظر فيما يتخالف مع القانون الدولي وما جرى التوقيع عليه، فما خالف هذه القوانين يجب تعديله أو تغييره أو تحويله… وما يوجد اليوم من هزات في ثوابت المجتمع مثل التعليم والتربية والتكوين وحقوق الإنسان دليل حي على ما نقول.

هكذا اسْتُلَّ الإنسانُ من (الأسرة) ليصبح إنسان (المؤسسات)، يستأنس بالمؤسسة العسكرية كانت أو مدنية… هكذا أريد له أن ينعزل عن خليته ليصاغ صياغة جديدة، ويربى تربية أخرى، ويوجه توجيها آخر، وقد نجحت الدولة الوطنية في العالم الإسلامي في إضعاف دور الأسرة في مجال بناء الإنسان لتتولى المؤسسات بناءه بما يتوافق مع رغبات الحاكم وتطلعات الحضارة المعاصرة، وهذا كله يتماشى مع مصالح الدول العظمى…

آن الأوان لأن نتكلم عن (إنسان الأسرة) … وآن الاوان أن نتحدث إلى إنسان الإسلام ليكون إنسان الأسرة أولا، مخلصا لتربيتها وتوجيهها… وفيا لمصالحها ومطامحها لأنه من الأسرة يكون المجتمع، ومن المجتمع تكون الدولة، ومن الدولة تنشأ المؤسسات… ولا معنى لنقل الإنسان هذه النقلة الاعتباطية.

إذ تكلمنا عن (إنسان الأسرة) فلا يعني هذا الوقوع في متاهات الكلام السطحي المجرد بل يعني الكلام عن الأسرة كما أرادها الإسلام للإنسان، لا الأسرة التي يريدها (النظام العالمي الجديد) للإنسان.

 

[1]   أخذت هذه المقالة من كتاب “بناء الأسرة بين القيم والتحديات المعاصرة” للدكتور محمد خروبات، وضعها كمدخل للكتاب تمهيدا للكلام عن (أسرة) والتحديات والأخطار التي تحدق بها.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M