إنّما المعتبر في التعبد حصول ثمرة المبادئ

18 يوليو 2016 22:00
بين الكلب والحمار وفرعون وعصيد

هوية بريس – ذ. محمد بوقنطار

في اجترار أليم لذكرى وفاة المخترع المغربي عبد الله شقرون، الذي ظهر بيننا فجأة ثم مات فُجاءة، مر على الخاطر طيف محاورته لمقدمة برنامج “قصة الناس”، وهي في غمرة المضض والمشقة من ثقل الرقم الذي عرضته إحدى الشركات الفرنسية مقابل تبني أحد أهم اختراعات المسلم المغربي عبد الله شقرون.

ولعل ما يهمني من هذا الاستحضار والاجترار هو إجابة الشاب المخترع للسيدة مقدمة البرنامج التلفزي، في محاولة منه لدفع ما اجتالها من شعور استغراب لامست جرعته سقف الشك والريب وربما التكذيب، إذ أفصح لها بكامل الثبات والاطمئنان أن ما استكبرته من حجم الرقم المعروض في دائرة المساومة والإغراء لاحتواء المشروع وصاحبه كان ولا يزال بالنسبة إليه لا يمثل شيئا ولا يمكنه أن يمثل شيئا، مقابل ما يتحلى به هو من مبادئ وقيم روحية ومعنوية تتضاءل وتتصاغر في انحناء ومغلوبية على عتبتها وأعتابها أموال الدنيا برمتها، ثم وقع على هذا الدفع والتجلية موجها خطابه للسيدة التي لا زالت تحت وطأة السكرة المادية، أن هذا هو الفرق بين من يعيش لمبادئه وبين من لا مبادئ له ولا قيم فاضلة…

 إذ صاحب المبدأ لا يرى في الحياة الدنيا الرؤية الساذجة، والتي تختزلها في كونها مجرد حاجات وجدت ليكون شعارها وقوامها محكوما بضوابط العرض والطلب والمساومة الفجة والمصلحة المحضة، ولا عبرة هنا بما تعيشه الأغلبية من وهم وصول زائف تم تخيله على غير أساس ولا مناسبة، ولم يراع آيات الله الكونية ولا الشرعية، وإنما العمدة والاعتبار للثلة القليلة التي تشكل الاستثناء المحمود، وتكون حياتها مطبوعة بما التزمته من قيم ومبادئ يسودها الاطراد كما يصاحبها الضيق والقدرة والغربة والابتلاء عند نقطة أي تماس وتعامل مع صنف من يعيش مستعبدا من هواه لا قبلة لهرولته ولا تبرير لسعيه.

ولنرجع لسيرة سيد الخلق وهو يُساوَم من وفادة قريش، ولنقف مع سفيرها زعيم بني أمية وأحد حكماء قريش عتبة بن ربيعة وهو يعرض عليه المال والملك والتطبيب، فتتكسر هذه المساومة على صفوان المبادئ النبوية المتسامية التي يحكمها ضابط الاستجابة لأمر الله جل جلاله “فاستقم كما أمرت”، كما فشلت مساعي الوفادة الثانية ذات الخصوصية والإكراه الأدبي المعتبر من جهة مكانة المبعوث إليه قربا وقرابة من نفس النبي عليه الصلاة والسلام.

أمام سمو المبدأ النبوي والقيم النبوية الشريفة التي تنأى بنفسها عن التماهي مع إغراءات العرض والتحضيض، ونعني بها وفادة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستصراخ قريش بمكانته الأدبية من رسول الله، وحكاية ما أسفرت عليه هذه المساومة من توقيع لا يقبل أنصاف الحلول ولا يتراجع عن مبدئه قيد الأنملة “والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته إلا أن يظهره الله أو أن أهلك دونه”.

وليس هذا بغريب ولا مستغرب على سيد الخلق، ليس حصرا على ما بعد البعثة، وإنما ذلك منسحب على حياته حتى قبل أن يوحى إليه، فقد وجدناه صلى الله عليه وسلم حريصا كل الحرص على تسجيل اسمه الشريف وحضور رسمه الطيب المبارك في قائمة ومشهد حلف الفضول، موقعا بذلك الحضور على أول اتفاقية أخلاقية وحقوقية تشذ عن السائد البائد من العلامات الفارقة والمميزة لما كان ينضح به المجتمع الجاهلي، وهو حلف كما هو معلوم متواتر أخذ على عاتقه وعاتق مؤسسيه الانتصار لقضية نصرة المظلوم والوقوف إلى جانبه أيّا كان انتماؤه وانتسابه ومستواه داخل النسيج الاجتماعي القبلي المتعصب.

هذا ولما كانت السمة المقعدة والمؤصلة والمميزة للمبدأ هي الاطراد في إطار السير قُدما والمدافعة استقامة على وفق الأمر الشرعي فعلا وتركا، والذي لا يشوب سيرورة سبيله إقعاد ولا زيغ ولا ضلال أو انتكاس وردة، كان صحيحا صوابا من هذه الجهة اعتبار المبدأ بمثابة الصراط المستقيم، الذي علمنا من الشرع الحنيف أن قواعد الانطلاق منه وفيه مبناها على كامل الإيمان الذي لا ينفك في معناه ومسماه، الاعتقاد عن العمل والإقرار، والإحسان فيه عن لازم أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وأن تكون فيه العلاقة بين العبد ونفسه يحكمها الصدق وتضبطها القناعة ويصاحب أنفاسها الحمد والشكر والصبر والمصابرة على ما تفضل به الله من منح وما ابتلى به من محن، وأن تكون في ظله علاقة العبد بأخيه مؤسسة على رسوخ التميز الخلقي المبني على قول الرسول الكريم “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه مثل ما يحب لنفسه”.

 وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم من لا مبدأ يحكمه، ممن تتهاوى أشرعة مراكب سيره وتنساق مع مهب الريح ومذهب صوبها، فتظل تحركه المصلحة والشخصنة وأثرة النفس في عزة بإثم، وفي انتهازية طافحة، سماه بـ”الإمعة” وهو الذي لم يوطن نفسه ولم يروضها بمجاهدة واقتحام عقبة على مبدا “إن أحسن الناس أحسن وإن أساءوا لم يظلم”.

ولك أن تقف في هذا المقام للنظر جليا في صنيع واحد من السبعة الذين وعدهم الصادق المصدوق بظل عرش الرحمن يوم لا ظل إلا ظله، وكيف أن مبدأ مخافة الله واستحضار خشيته أوجب له شرف الدنيا وحسن ثواب الآخرة، وقد جاء طيب فعله في صحيح المذكور النبوي في السياق إلى جانب الحاكم العادل، والرجل المعلق قلبه بالمسجد، والمحسن السخي الذي بلغ إخلاصه أن غاب عن شماله ما أنفقته يمينه، وهي استعارة لها وزنها ودلالتها في هذا المقام، فثباته على المبدأ في لحظة خاطفة عابرة، ومواجهته لثقل الإغراء متحليا بمبدأ الخوف من الله رفعه إلى منزلة الأمن يوم القيامة، بله الاستظلال بظل عرش الرحمن وأعظم بها من منزلة، وأعظم به من موقف سيما والمرأة موضوع الإغراء ومحل صدور الدعوة هي ليست أي امرأة، وإنما هي سيدة اجتمع فيها ما انعدم أو تفرق في غيرها من دواعي النكاح والوطء من حسب ونسب ومنصب ومال، ولكن المجموع الزائل الخسيس تكسرت أشابة معدنه على صلادة صفوان المبدأ الذي استشرف صاحبه معه نوال الباقي الخالد النفيس، فطوبى له ولشواكله.

ولا شك أن هذا الرفع وذلك النوال له دلالته من جهة انتصاره وتكريسه للنوع والكيف والقلة على حساب الجنس والكم وكثرة الغثاء، كما له وزنه ودلالته في ضرورة توجيه الاعتداد بالكثرة والتبجح بها والركون إليها في غباء وإعجاب مفرط عند الحديث باعتداد ورمزية تميز واتكال على أمة المليار ونيف، ولعله توجيه يسوق بالضرورة إلى الوقوف على حقيقة غثائية هذه الكثرة وذهاب ركزها جفاء.

وها هو الواقع بالصوت والصورة والرائحة يذهب مذهب إقرار حقيقة هذه الغثائية وصدق ذهاب ركزها جفاء، إذ لو بصقت أفمام هذه الكثرة المنتسبة للإسلام لأغرقت ثلة اليهود في يم لعابها.

 ولعل الناظر إلى هذا الإقبال المحمود من جهة الظاهر على شعائر الإسلام من صلاة وقيام وحج وصيام، لابد أن يشكل عليه باللازم ما تعيشه الأمة الوسط من ذل وصغار ومهانة، وأنها في ذيل الركب تستجدي وتتسول في ضعف ووهن وشديد فقر وحاجة إلى الغداء والماء والدواء وربما الهواء.

ولابد لهذا الإشكال من زوال، متى ما علمنا أن المسلمين اليوم وفي غمرة انتسابهم الشكلي -إن جاز التعبير وسلمت الحكاية- لهذا الدين وهذه الأمة تحكمهم الأهواء وتتحكم فيهم الطبائع المستهجنة وتتصارعهم الأوزاع وتأخذ بنواصيهم البدع والمحدثات، حتى أنك لا تكاد ترى للمبادئ الإسلامية المتسامية وجودا يذكر في نفوس السخائم المحسوبة بالظن الراجح على منزلة الإخبات والإنابة وصحيح المعتقد.

كما لا تكاد تسجل للعبادة والتعبد والعابد ثمرة سلوك وتمثل يحيل على أن ثمة مبادئ تنير الطريق وتهدي إلى سواء السبيل، ولذلك لما هبت رياح التضييق والقدرة والغربة والإغراب، رأينا العجب العجاب من معشر المتحولين والمنسلخين والمتغيرين في خصومة وعداوة وانقلاب على الأعقاب، وهم من هم؟

هم الذين كانوا حتى الماضي القريب قد ملأوا الدنيا بضجيج الفكر والتنظير والمحاججة والمطارحة دفاعا ومدافعة عن صحيح الانتساب وقويم الالتزام، وكانوا قد أخذوا ألباب الشباب بتعالمهم وتميز بضاعتهم من جهة المعلومة الدينية بتجرد عن منقبة العمل بها أو حصول لازمها من الخوف والخشية، سواء تعلق الأمر بلازم العقيدة أو بلازم الفقه أو العلم عموما.

ورحم الله إمامنا مالك إذ قال:” ليس العلم كثرة الرواية ولكن العلم الخشية”، وقد نزيد بتصرف غير قادح في جميل هذا المعنى وبديع هذا المأثور، وذلك بتقييد مفاده ربط الخشية بالمبدأ “مبدأ الخشية” رائمين بهذا التقييد ومنه التنصيص على ملحظ الاطراد الذي لا تنهار معه القيم والمبادئ أمام ترادف أرقام المساومة وضغط إغراءاتها بغية بيع الأخلاق واستبدال الذي هو أدنى منها بالذي هو خير، في دائرة الثبات أو التراجع أمام سيل العروض وترادفها في أسواق الحداثة أسواق المزاد العلني.

[email protected]

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M