اتق شر من أحسنت إليه

11 مايو 2023 08:44

هوية بريس – حسن المرابطي

جرت العادة أن يتم استعمال، في حياتنا اليومية، الكثير من الأمثال الشعبية والحكم المتوارثة؛ غير أن هناك من يأخذ بظاهر معناها دون تردد، ويعمل بها في حياته ويطبقها دون أن يعيد التساؤل عن السياق الذي قيلت فيه، ولا أن يحاول فهمها وفق ما توفر لديه من معلومات وتجارب في الحياة، بل لا يكلف نفسه إعادة صياغة أفكاره وفق المعتقدات التي يؤمن بها، حتى لا يعيش في فلك من التناقضات على مستوى الأفكار والأفعال وهو يؤمن ببعض مضامين الأمثال والحكم الشعبية.

وفي هذا الصدد، نجد أن بعض الأمثال والحكم لقيت انتشارا واسعا على ألسنة العامة والخاصة، ومن قبيل ذلك المقولة التي خصصنا لها هذه المساهمة لمحاولة فهمها والتعليق عليها، وهي: “اتق شر من أحسنت إليه”؛ حيث نجد أن مختلف الأوساط وشرائح المجتمع تعمل بمقتضاها العام، ولعل من الغرائب أن من الناس من يبني علاقاته العائلية وفق معناها الظاهر، فضلا عن العمل بها في مجال السياسة والتجارة والأعمال، وفي معظم العلاقات الاجتماعية؛ ولهذا، نرى وجاهة إعادة النظر فيها وكذا صياغة معانيها من جديد وفق ما يتناسب مع معتقداتنا، وإلا لم يعد معنى لما نحمله من أفكار ومبادئ.

في محاولة لمعرفة ما يؤرخ لهذه المقولة، وجدنا أن القصص تعددت بخصوصها، بل هناك ما يماثل معناها في الثقافات الأخرى، غير أن أهم ما يجمعها هو أن من تُحسن إليه اليوم قد يصبح عدوا وخصما شرسا غدا، بل قد يبذل المحسن إليه قصارى جهده للقضاء على من أحسن إليه؛ وهذا ما يطرح عدة تساؤلات حول الأسباب الداعية لذلك، ويجعلنا نستذكر مقولة الشاعر: “إذا أنت أكرمت الكريم ملكته … وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا”؛ بمعنى أن أثر الإحسان مرتبط بالمحسن إليه بدرجة كبيرة، وهو من يتحكم في إعطاء المعنى الإيجابي له؛ ولكن هذا لا ينسينا دور المحسن كما سنتعرف عليه فيما بعد.

وعليه، فإن النظر إلى حال المحسن إليه يجعلنا نفترض فيه الكثير من الخصال الخبيثة حتى يجرؤ على رد الجميل بالإساءة للمحسن؛ وأكيد أن هذه الخصال متعددة ومتنوعة، وقد تختلف زوايا النظر والرؤى في ذلك؛ غير أننا سنشير إلى أحد أهم الأسباب في نظرنا، والتي يصعب الاختلاف حولها، وهي ذا علاقة بالتكوين النفسي، وكذا بالتربية والأخلاق المتبناة؛ حيث يمكن تحليل نفسية راد الإساءة للمحسن في كونه يظن أن من أحسن إليه يدرك مواضع ضعفه، بل أن الإحسان إليه لم يأتي إلا في حالة ضعفه، التي يعتبرها عقدة نقص لا يدرك درجة تأثيرها إلا من كان سببا في تجاوزها، والمحسن أحدهم؛ لذلك تراه يسابق الزمن للتغطية عن ضعفه هذا بمحاولة إضعاف المحسن الذي كان هو السبب، بدل رد الجميل وشكره على ذلك، لأن شكر الناس من شكر الله الذي بعثهم إليه ليحسنوا إليه ويقفوا بجانبه؛ كما يقال: “من لا يشكر الناس لا يشكر الله”.

وفي المقابل، نجد أن من يقدم الإحسان لغيره، لا يلبث يؤمن بمقتضى تلك المقولة، حتى يصبح شخصا حاقدا على من يستحق الإحسان والاهتمام؛ ما يعني التعامل معه بنوع من الإساءة وأخذ الحيطة والحذر باعتقاد عدم جدوى فعل الخير في الضعيف، لأنه في يوم من الأيام سيرد له الخير شرا؛ وهذا ما يعقد العملية أكثر، لأن الجميع بعد ذلك سيصبح يؤمن بفحوى المقولة، حيث من يُساء إليه وهو في حالة ضعف لا يؤمن من ردة فعله يوما ما عندما يقوى، إلا من رحم الله.

وفي هذا السياق، لابد من أن كل واحد منا استحضر بعض الأمثلة التي تؤيد المقولة ونحن نمعن النظر فيها؛ وربما حَكْي القصص على ذلك سيطول كثيرا، غير أن إنكار الجميل الذي يجابه به التلميذ أستاذه لا يقابله أي إنكار إن استثنينا إنكار الولد جميل والديه؛ غير أن المقصود بـالتلميذ والأستاذ لا يتعلق بمجال التعليم والتربية فقط، وإنما ينسحب على جميع أنواع المجالات؛ فيدخل في ذلك تعليم جميع أنواع المهن والحرف في غير المؤسسات التعليمية المخصصة لذلك.

لكن الميادين الأكثر تعاملا بالمقولة “اتق شر من أحسنت إليه” بشكل ملحوظ  ولا جدال حوله هو ميدان السياسة والمال بدون منازع؛ حيث تطبق مبادئ نظرية مكيافيلي التي تنظر إلى ميدان السياسة، مثلا، أنه ميدان خداع ونفاق بامتياز؛ ولعل ذلك يظهر، بشكل جلي، في مختلف المنظمات السياسية، لاسيما التي تفتقد لأبسط القواعد الديمقراطية؛ لذلك نشهد المستوى العالي من الحذر والحيطة التي يتخذها الزعماء السياسيين من أشد الناس قربا لهم فضلا عن خصومهم، لأن من تعلم قواعد السياسة من الزعماء السياسيين سيتمكن منه الطموح لبلوغ الدرجات العلى، وذلك لن يتحقق في حضرة من تعلم منهم ويعرفون نقاط ضعفه، سواء من تعلم على يديه أو من كان ذا فضل عليه في الترقي والصعود من أقرانه؛ ما يعني بالضرورة الالتجاء إلى مختلف الوسائل للقضاء على من يعتبروهم  حاجزا وعائقا في طريقه.

وعلى سبيل الختم، نقول: إن فاعل الخير، عندنا في الإسلام، لا ينتظر جزاء ولا شكورا من أحد كما جاء في القرآن الكريم؛ بل لا يكون الدافع لفعل الخير من باب قطف الثمار في الدنيا، ولا برد الجميل من طرف المحسن إليهم، وإنما على العكس تماما، فالمحسن الحقيقي يجتهد قدر المستطاع حتى لا يقال عليه أنه فعل الخير تجنبا للوقوع في الرياء والغرور؛ فضلا عن أن فاعل الخير لا يطمح للرياسة ولا التحكم في بني البشر، وإنما كل أمانيه أداء الأمانة التي حملها وتذكير غيره إلى ذلك؛ وبذلك لا يجد الحقد لقلبه طريقا ولا يعتبر نفسه ذا فضل على أحد، وإنما فضل الله وسع كل شيء.

وفي الجهة الأخرى، نجد من كان يوما في موقف ضعف ونقص لا يعتبر أصحاب الفضل عليه أعداء ولا يعمل على منافستهم، وإنما جل تفكيره أنه يقوم بالمهمة التي أوكلت إليه في هذه الحياة دون إزاحة أحد من طريقه ولا اعتباره عقدة نقص وجب استئصاله؛ وإنما على النقيض تماما، فإن الواجب عنده التعاون مع الغير، مهما كان، لأداء الأمانة وعبادة الله حق عبادته؛ وبذلك يرى أن كل فعل خارج عن هذا السياق هو اعوجاج وانحراف عن الطريق المستقيم يقتضي تعديله وإصلاحه.

وبخلاصة: إن الأصل في الإنسان المسلم أن يكون سويا، يريد الخير للجميع لاسيما من كان يوما ما سببا في بلوغه بعض الدرجات، مغيرا المقولة التي رأينا إلى هذا الشعار: “اتق الله في من أحسن إليك وأحسنت إليه”.

اللهم ارزقنا المنطق والعمل به.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M