استراتيجية الإسلام (10).. الإيمان- الإيمان والعجز

14 أبريل 2023 18:51
مصلى التراويح بحي الانبعاث بمدينة سلا.. فضاء إيماني لإحياء ليالي رمضان بالقرآن

هوية بريس- محمد زاوي

3- الإيمان

– الإيمان والعجز

الإنسان “حيوان واعٍ”، وعيه بذاته لم يمكنه من تطوير قدرته على الإنتاج المادي فحسب، بل طرح عليه أسئلة مصيرية أيضا؛ أسئلة ليست من صميم بحث الموجود العياني، وإنما ذات أبعاد إما أزلية وإما أبدية. هما سؤالان إذن، سؤال الأزل (الأصل)، وسؤال الأبد (المصير)، لا يبرح عنهما الإنسان متسائلا حتى يجد ضالته ويروي “ظمأه الأنطولوجي” (بتعبير عبد الجبار رفاعي). في الأزل يتأكد سؤال الخلق، وفي الخلق سؤالان، سؤال الخلق الأول (خلق الهيولى الأولى للكون)، وسؤال الخلق الثاني (خلق الإنسان). وفي الأبد يتأكد سؤال المصير، وفيه سؤالان أيضا، سؤال المصير الأول (قيامة الموت)، وسؤال المصير الثاني (قيامة القيامة).

ورغم تقدّم الإنسان في علاقته بذاته وعالمه، لم تفارقه هذه الأسئلة إلى اليوم. فكّ شيفرتها بالأسطورة زمن البدائية، ثم بالعقيدة زمن الشريعة. وما زالت العقيدة حية في قلوب الناس إلى اليوم، مهما أنكروا وتنكروا. لولا ذلك، لما كانت الميتافيزيقا من الفلسفة، ولما كانت علوم الأديان من العلوم الإنسانية، ولما كان التصوف ملازما لبعض الرياضات.. إنه سؤال الغيب يتخذ أشكالا شتى، ويعبر عن نقص يحسه الإنسان وسؤال يؤرقه.. ما الغاية من هذا التعقيد العصبي ما لم يقد إلى يقين، إلى معرفة تخترق حجاب العلم الجزئي؟

العقيدة اختبار باطني، محاكاة تخاطب باحات بعينها من ذاكرة الإنسان، بحث بلغة اليقين عن الوحدة والكل؛ العقيدة سؤال باطني يأخذ حكم الجواب في الظاهر، تفجير لطاقة خفية فرضت المختبرات عليها الحظر، اقتراب من بقايا “الغيب” في الذات لعلها تكشف بعض معالم عالم قديم، إيجاد للأصل خلف طبقات من الرموز.. لا يفهم هذه اللغة متشبع بالحداثة، لأن قراءته محكومة بزمن التقدم، خاضعة لجبريته، مكبلة بأغلال الصناعة والتقنية والديمقراطية.. الرجوع إلى الأصل يطلب مفارقة الأشكال والغوص في الأعماق، من لا يستطيع ذلك لن يحسن الحديث في العقيدة.

للإيمان وجهان، وجه سياسي وآخر وجودي. السياسي يعيشه الجميع، وجه من أوجه السلطة، أغراضه من صميم المصلحة الاجتماعية. أما الوجودي فلا رقابة عليه، فسحة اتصال مع عالم الغيب، إيمان لا نهائي نهايته الأصل والأصل لا نهاية أخرى. الإيمان عمل، وسائله الجوارح والأركان (“الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل”/ الحسن البصري)، تستحضر صورةً ما للأصل فيستيقظ فيها وقد طواه الدهر. عملية شاقة هذه، يحول بينها وبين الإنسان المعاصر تقدّمه، فيبقى حبيس اليومي، بما في ذلك إيمانه اليومي. ليس من آمن كمن كفر، لكن المنازل ليست واحدة. بين إيمان سياسي وآخر وجودي مسافات من التأمل والبحث والنظر، العزلة والزهد، السياحة والتدبر؛ من افتقد التجربة لم يعرف سبيلا للرضا، ومن افتقد الرضا لم يجد للإيمان معنى. “ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا” (أخرجه الترمذي، ورواه العباس بن عبد المطلب).

عُرِّف الإيمان بأنه “لجوءٌ إلى قوة غيبية عند العجز”. ولنا أن نتساءل بصدد هذا التعريف لماذا استعمال النكرة- “لجوء”، “قوة غيبية”؟ إذا كان المقصود تعدد كيفيات اللجوء والتصورات الغيبية عند أصحابها، فإن النكرة في محلها. أما إذا قُصِد به الفصل بين العقيدة والحقيقة، فلا تعبر النكرة إلا عن حال صاحبها. تتعدد الطرق والأصل واحد، ممتد في الخلق، موحّد للأجزاء، جامع للمتفرقات.. السلوك طريق للحقيقة، والحقيقة واحدة. جاء “العجز” معرّفا وإن تعددت صوره، وكذلك هما “اللجوء” و”القوة الغيبية” معرّفان تعددت الكيفيات والتصورات.

أتُرانا عاجزون في هذا الزمن لنطلب الغيب؟ هناك عجز نسبي زمني، عبارة عن ثقوب يملأها الإيمان، الأحوال تدل عليه وإن ناقضته الأقوال. وهناك عجز مطلق لصيق بالإنسان، هو عيبه الأبدي، لا معنى للربوبية بالقدرة عليه. لذلك نعلم غيبا لا كل الغيوب، أما الله ف”علاّم الغيوب” (“إنك أنت علام الغيوب” (سورة المائدة، الآية 109)/ وزن “فعال” المبالغة في الفعل). بعيدون مهما اقتربنا، نعجز في الأقرب، فأين الأبعد؟ نجهل تاريخ الإنسان، فأين نحن من تاريخ الكون، وأين نحن من الأزل؟ الجهل مع بصيص إحساس بالأصل، وحدهما ينقذان الإنسان من طغيان العلم، وحدهما يذكّران بالعجز ويحرران الإنسان من عبودية البحث الجزئي.

(يتبع)

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M