الاحتفال بالسنة الميلادية من الجذور التاريخية إلى موقف الشرع

27 ديسمبر 2019 21:24

هوية بريس – د.محمد عوام

لماذا الحديث عن هذا الموضوع؟

أولا: لأن له ارتباطا بعقيدة الأمة، والعقيدة هي اللبنة والأس الذي لا ينبغي التفريط فيه، فهي منطلق الإصلاح ومنطلق البناء، ومنطلق الرقي والحضارة، فمن هنا ننطلق ومن هنا نبني. فمفهوم الولاء والبراء مفهوم عقدي له تجليات في الواقع، وليس مفهوما قابعا في مخيلة الناس وكفى، أو من المفاهيم المنفصلة عن واقع المسلم، لا أبدا.

ثانيا: أن هذه البلوى اتسع رقعها، وانتشرت وذاعت من غير أن يعي معظم الناس أنها من صميم الذوبان في الكيان الأجنبي، واتباعه حتى فيما هو من خصوصيته الدينية والثقافية والتاريخية، وهذا يدل على الإحساس بالانهزامية والدونية والتبعية.

ثالثا: لا بد من بناء شخصية المسلم المتميزة والمتفردة والمستقلة، لبناء الرقي الحضاري والعمراني، وهذا لا يعني أبدا عدم الاستفادة من الكسب الإنساني المشترك، ولا يخفى أن الاحتفال بالسنة الميلادية ليست من هذا القبيل أعني من الكسب الإنساني المشترك، فهي ذات صبغة دينية، تسللت إلى البلاد في وقتنا المعاصر مع الاستعمار الفرنسي وغيره. ولا زلت أذكر في صغري أن الاحتفال بالسنة الميلادية كان محصورا في بعض الأحياء التي تسكنها أغلبية نصرانية أجنبية، مثل حي أكدال بالرباط، ولم تكن لها هذه الهالة، لا في واقع الناس، ولا في الإعلام، كما تحضر وتدعو لها القناة الثانية، وغيرها.

رابعا: ينبغي التفريق بين التعاون الإنساني المبني على احترام إنسانية الإنسان وحفظ كرامته، وبين الموالاة والتودد، ويكفي أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل الكتاب بيعا وشراء، حتى مات ودرعه مرهون عند يهودي. والشريعة حين تنهى عن موالاتهم، لا تنهى عن معاملاتهم والإحسان والبرور إليهم، لا سيما من لا يحارب المسلمين. فقد ورد في حديث أم زرع عند قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها : “كنت لك كأبي زرع لأم زرع.” حكى القاضي عياض رحمه الله عن المهلب بن أبي صفرة الفقيه في شرحه لحديث أم زرع أنه قال : “فيه (يعني الحديث) من الفقه جواز التأسي بأهل الإحسان من كل أمة.” فصححه القاضي عياض، واشترط عدم مصادمته للشريعة.( بغية الرائد لما تضمنه حديث أم زرع من الفوائد 171، ويمكن مراجعة كتاب (الفروق) لشهاب الدين القرافي، الفرق التاسع عشر والمائة بين قاعدة بر أهل الذمة وبين قاعدة التودد لهم1/701)

خامسا: أن من مقاصد الشريعة الإسلامية أن يكون المسلم متبعا لا مبتدعا، لا سيما في المجالات ذات الصلة بالعقيدة ، بل إنه مطالب بأن يتبع الشريعة في كل ما يصدر عن الشارع الحكيم، دون الارتماء في أحضان الأجنبي. وطبعا نحن لا ننكر القضايا التي قد تخضع للاجتهاد بحسب تغير الأحوال والأزمان والأماكن، وقطعا الاحتفال بالسنة الميلادية ليست منها.

الجذور التاريخية

لقد ثبت تاريخيا أن الإعلان عن ميلاد المسيح، أو عيسى عليه الصلاة والسلام تم ذلك بعد 130 سنة بعد الميلاد على لسان البابا تيليسفور. وقد خاض المسيحيون في ذلك واختلفوا اختلافا كبير في تحديد وقت ميلاده، وفي الأخير اتفقوا على أن ميلاد عيسى عليه السلام كان يوم 6 يناير، وهو الثابت والأقرب إلى الصحة عندهم. لكن لماذا غير المسيحيون، وخاصة البابوات والرهبان منهم هذا التاريخ؟ غيرت الكنيسة هذا التاريخ ليوافق “الاحتفال الروماني بالعيد الوثني الشمسي الكبير وهو يوم 25 ديسمبر، وهو اليوم الذي يوافق ميلاد الإله الوثني (ميترا) إله الشمس القهار كما يزعمون، لأنهم لاحظوا أن عيد الميلاد المسيحي ليس عليه إقبال كبير، فغيروا توقيته لاستجلاب العديد من الوثنيين الذين دخلوا في المسيحية ولا زالوا يحتفلون بعيد (ميترا). وبعض الكنائس لا تزال تحتفل بعيد الميلاد يوم 6 يناير، مثل الكنيسة القبطية وكنائس الأرثودكسية، وغيرها. وهكذا تسربت الوثنية إلى أعياد المسيحيين عموما ومنها الاحتفال بالسنة الميلادية. ولا تزال بعض أعياد الميلاد وخاصة بجنوب فرنسا تحمل الآثار الوثنية.”

ويظهر من هذا جليا أن عيد الميلاد تحول إلى عيد وثني، وهناك إشارة إلى ذلك في إنجيل لوقا، حيث يصف المسيح بأنه الشمس المشرقة. مع العلم أن عيد الميلاد يتم فيه “إشعال الحطب وهو رمز لتستعيد الشمس نشاطها الناري. و6 يناير يتطابق مع عيد يسمى عند الوثنيين بعيد الغطاس والتعميد، وهو عبارة عن ذكرى العيد الوثني للماء يفعلون ذلك عند عبادة دونيزوس، وإيزيس، وأوزريس.”

وقد أثبت مؤرخو الديانات والمهتمون من العلماء بعلم الأديان المقارن، أن الأعياد المسيحية بما فيها عيد الميلاد أعياد وثنية. بل إن بعض البابوات مثل البابا جريجوري الرابع قرر الاحتفال بعيد جميع الموتى سنة 835م ليوافق أعياد الكلت في إيرلندا وشمال أروبا. ولنستمع إلى القديس أوغسطين في رسالته التاسعة والعشرين يقول: “إن الكنيسة الكاثوليكية قررت الاحتفالات بأعياد الشهداء، وتقديم الطعام لهم، على طريقة الاحتفالات الوثنية الكبيرة.”

هل هناك من صلة بين المسيحية والوثنية؟

وهنا حق للباحث أن يتساءل عن وجه الصلة بين المسيحية والوثنية، ولا ينبئك مثل خبير، وهي شهادة أستاذ تاريخ الأديان وعلم الأديان المقارن بجامعة باريس الدكتور أندريه نايتون Andre Neyton ننقلها من كتابه (المفاتيح الوثنية للمسيحية) يقول: “ونحن في دراستنا لتاريخ الأديان اليوم لا نستطيع أن ننكر ما بين المسيحية والوثنية من صلات وثيقة، وأواصر متينة، بل إنه يلزمنا ويجب علينا أن نبين كيف أن هذه المسيحية تحدرت من الوثنية، وصارت لهما نسب واحد وأصل مشترك. وهذا أمر منطقي وطبيعي جدا لدى مؤرخ الأديان. ونحن لا نبالغ إذا قلنا: إن ما يعرف بالأسرار الدينية في المسيحية مستوحى من الأديان الوثنية القديمة…إننا لا نستطيع أن نفهم مسيحيتنا حق الفهم إذا لم نعرف جذورها الوثنية،، فقد كان للوثنية قسط وافر في تطور الدين المسيحي.” وبالمناسبة فإن الأستاذ أندريه نايتون يسلط سهمه حتى على اليهودية، حيث يثبت تأثرها بالوثنية التي كانت سائدة في بابل وفارس.

وما ذهب إليه نايتون، قد أكده من قبل سعيد بن البطريق المتوفى سنة 940م، وهو من أهل الدار، أعني مسيحي الديانة فقد وضع كتابه باللغة العربية سماه ( نظم الجوهر) يتحدث فيه عن تاريخ المسيحية ويثبت تأثرها بالوثنية. وقد اعتمد كتابه علماء الإسلام، منهم القاضي أبو البقاء صالح بن حسين الجعفري في كتابه (تخجيل من حرف التوراة والإنجيل)، والإمام القرافي في كتابه (أدلة الوحدانية في الرد على النصرانية)، وابن تيمية في كتابه (الجواب الصحيح لمن حرف دين المسيح)، وتلميذه ابن القيم في كتابه (هداية الحيارى).

ونحن نتساءل هل يليق بإنسان مسلم، بعد أن يعلم بهذه الانحرافات الخطيرة، التي تمس جوهر العقيدة، أن يشارك المسيحيين في أعيادهم؟ !

الموقف الشرعي

موقف الشرع واضح من الاحتفال بالسنة الميلادية، لا غبار عليه لمن تشبع بروحه، واهتدى بهديه، لكن لمن التبست عليه الأمور، فجهل حكم الشرع في ذلك، فلا بأس أن ننبهه بقراءة كتاب (موقف علماء المالكية من الاحتفال بالسنة الميلادية) لصاحب هذه الأسطر، وقد جدد معهد الغرب الإسلامي طباعته، وهي طبعة مزيدة ومنقحة عن سابقتها لسنة 1996م.

وأنا أنقل منه ما يلي للاستدلال على بطلان الاحتفال بالسنة الميلادية، وأن ذلك من المنكرات الشنيعة. قال عزّ وجلّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ﴾ (المائدة: 51،52)

قال القرطبي في تفسير هذه الآية: «وهذا يدل على قطع الموالاة شرعا.» (الجامع لأحكام القرآن 6/140)

وقال ابن عطية: «نهى الله تعالى المؤمنين بهذه الآية عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء في النصرة والخلطة المؤدية إلى الامتزاج والمعاضدة. وحكم هذه الآية باق. وكل من أكثر مخالطة هذين الصنفين فله حظه من هذا المقت الذي تضمنه قوله تعالى: ﴿فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾.

وأما معاملة اليهودي والنصراني من غير مخالطة ولا ملابسة، فلا تدخل في النهي. وقد عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم يهوديا، ورهنه درعه…». (المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز 5/126).

عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تشبه بقوم فهم منهم.». والنصوص في هذا الباب كثيرة.

وأما الفتاوى فهي أيضا كثير، قديمها وحديثها، من ذلك ما جاء في (المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى أهل إفريقية والأندلس والمغرب) لأبي العباس الونشريسي المتوفي سنة (914ﻫ). «وسئل أبو الأصبغ عيسى بن محمد التميلي عن ليلة يناير التي يسمونها الناس (لعلها الصواب: يسميها الناس) الميلاد، ويجتهدون لها في الاستعداد، ويجعلونها كأحد الأعياد، ويتهادون بينهم صنوف الأطعمة، وأنواع التحف والطرف المثوبة لوجه الصلة، ويترك الرجال والنساء أعمالهم صبيحتها تعظيما لليوم، ويعدونه رأس السنة. أترى ذلك أكرمك الله بدعة محرمة، لا يحل لمسلم أن يفعل ذلك، ولا أن يجيب أحدا من أقاربه وأصهاره إلى شيء من ذلك الطعام الذي أعده لها، أم هو مكروه ليس بالحرام الصراح؟.

فأجاب: «قرأت كتابك هذا، ووقفت على ما عنه سألت. وكل ما ذكرته في كتابك، فمحرم عند أهل العلم. وقد رويت الأحاديث التي ذكرتها من التشديد في ذلك. ورويت أيضا أن يحيى بن يحيى الليثي(234ﻫ) قال: لا تجوز الهدايا في الميلاد من نصراني، ولا من مسلم، ولا إجابة الدعوة فيه، ولا استعداد له، وينبغي أن يجعل كسائر الأيام. ورفع فيه حديثا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوما لأصحابه: «إنكم مستنزلون بين ظهراني عجم فمن تشبه بهم في نيروزهم ومهرجانهم، حشر معهم.».

وخلاصة هذه القضية أن الاحتفال بالسنة الميلادية، يجعله العلماء من المولاة للنصارى، والتشبه بهم، ويعدونه أيضا من شهود الزور، وكل هذا لا يليق بالمسلم البتة. قال عبد الله بن عتبة: «ليتق أحدكم أن يكون يهوديا أو نصرانيا وهو لا يشعر…».

والحمد لله رب العالمين.

 

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M