الانعاكسات السلبية لمشكل الصحراء مغاربيّا وعربيّا

11 يونيو 2021 12:41
د. الودغيري يكتب عن قانون "فرنسة التعليم": كيف يجري النهر بعد تجفيف منابعه؟

هوية بريس- د. عبد العلي الودغيري

لا شك أن المحلّلين والمتابعين الموضوعيّين والمحايدين للنزاع المفتعَل حول الصحراء الذي امتدّ لفترة أطول من اللازم، أصبحوا يدركون جيدا أن المغرب ليس المتضرِّر الوحيد حاليًا من استمرار الوضع على ما هو عليه، عكس ما قد يُتصوَّر. وإنما هناك أطراف أخرى متضرّرة، وفي مقدمتها ساكنةُ مخيمات تندوف، ثم الجار الشقيق دولةً وشعبًا، ثم بقية شعوب المغرب الكبير ودولها، والشعوب العربية ودولُها أيضا.
• أما إخواننا الصحراويون المحتَجزون قسرًا داخل المخيمات طيلة العقود الماضية، فأوضاعُهم السيئة اجتماعيا واقتصاديا وصحيا وتعليميا وحقوقيا معروفة. ومجرد مقارنة بسيطة لأي ملاحظ بين أحوالهم هناك وأحوال إخوانهم وبني عمومتهم في الصحراء المحرَّرة بالساقية الحمراء ووادي الذهب، تعطي الدليل الواضح على ما نقول. ولو كانت الفرصة قد أُتيحت لفكّ أسرهم ورجوعهم إلى وطنهم الأم، لزالت معاناتهم الطويلة.
• أما الأضرار على البلدين الجارين الشقيقين المغرب والجزائر معا، فهي، كما لا يخفى، جسيمة وثقيلة ومتعددة الجوانب. فتأزّم العلاقة بسبب هذا المشكل بين الطرفين طيلة هذه المدة، أثّر بشكل واضح على التنمية الاقتصادية والاجتماعية في الدولتين معا. والأموال الطائلة التي صُرفت طيلة الخمسين عاما الماضية في التمويل والتمويل المضاد للنزاع الذي شمل جوانب عسكرية وسياسية ودبلوماسية وإعلامية وغيرها، لو تمَّ صرفُها في تنمية البلدين اقتصاديا واجتماعيا، لكانت أحوالهما معا قد تحسَّنت بشكل كبير جدا وعاد نفعُها على كل أبناء المنطقة. ولقد ضاع على البلدين والشعبين وقت ثمين وجهد كبير كان ينبغي استغلاله في البناء والتعاون وتعويض ما فات في زمن الاحتلال وفترات التخلف السابقة. كم من مدارس ومعاهد وجامعات ومستشفيات ومصانع ومعامل ومنشآت كان يمكن تشييدها بالأموال الطائلة التي صُرفَت من الطرفين على النزاع؟ كم من ملايين الأميّين كان بإمكانهم ان يتعلّموا ويساهموا في التنمية؟ كم من كفاءات في كل مجال كان يمكن إعدادُها؟ كم من أيادٍ عاطلة كان يمكن تشغيلها، وبطون جائعة كان يمكن إطعامُها، وطاقات يمكن استغلالُها، ومساحات قاحلة وأرَضٍ ميتة يمكن إحياؤها وزراعتها واستثمارها، وطرق وسكك يمكن شقّها؟ وكم من أحلام ومطامح كان يمكن تحقيقها؟ وكم من تكامل اقتصادي واجتماعي كان يمكن إنجازه؟ فضلا عن الانعكاسات الاقتصادية الأخرى المتمثلة في ضعف التبادل التجاري البيني وانحداره إلى درجاته الدنيا.
هذا على المستوى المادي المنظور للأشياء، أما على المستوى غير المنظور، فهناك الأضرار المعنوية الجسيمة التي أصابت العلاقة الإنسانية والاجتماعية بين الشعبين الشقيقين في تواصلهما وتقاربهما وتلاحمهما وتزاورهما وتآزرهما وصلة الرحم والدم بينهما، ولا شك أن الأمر سوف يتفاقم في حال استمرار النزاع. وكل ذلك يمكن أن يولّد كراهية متبادلة موروثة تتحول إلى عائق كبير في التفاهم والتعاون المستقبلي بين أبناء البلدين على المدى المتوسط والبعيد، وبذلك يتحقق المخطط الكولونيالي القديم الساعي إلى تمزيق المنطقة وتقطيع أوصال شعوبها وتعميق الشروخ بينها.
• إذا تجاوزنا العلاقة بين البلدين الجارين، فإن هذا النزاع الطويل قد عطَّل مسيرة وحدة المغرب الكبير، وحال دون تحقيق ما كافحت من أجله الأجيال التي كافحت مشترَكةً ومتعاونةً لتحرير بلداننا وتوطيد أسس الوحدة والتكامل والتلاحم بينها، سعيا إلى تكوين كتلة كبيرة متراصّة تضم ما لا يقل عن مليون نسمة، يمكن أن تتحول إلى قوة إقليمية جبّارة مندمجة ومنافسة لعدد من الكيانات الإقليمية الأخرى. لكن الذي حدث، في ظل هذا النزاع المفتعَل، هو أن واقع الانقسام والتشرذم الذي أعقب مرحلة الاستقلال والكفاح المشترك، فرض على كل بلد من بلدننا المغاربية الخمسة، الانغلاق على نفسه، والتعويل على إمكانياته المحدودة، واللجوء إلى قوى خارجية تعمل على اختراقه واستغلاله ومساومته على حقوقه وحريته ومكتسباته، وأضرار كل اختراق من هذا النوع تعود بالسوء على المنطقة كلها.
• ومن الأضرار التي يخطئ الكثيرون في تقدير حجمها وأثرها، إضعاف الهوية العربية الإسلامية لكلا البلدين الشقيقين الجارين، عن طريق إضعاف اللغة والثقافة العربيتين فيهما والسماح بتغلغل الغزو الثقافي واللغوي الأجنبي. فلا يخفى أن هذا النزاع قد أدى بالبلدين معا إلى التماس الدعم الفرنسي سياسيا واقتصاديا على الأٌقل. وهذا الدعم له ثمن باهظ يدفعه الشعبان على حساب لغتهما وهويتهما.
• على الصعيد العربي، انضاف هذا النزاع إلى عوامل الانقسام والتجزئة الأخرى بين دول المجموعة، ولا سيما في ظل العجز المزمن لجامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي عن التدخل لحل النزاعات بين الدول الأعضاء، مما زاد في إضعاف النظام العربي كله، وتعطّيل مسيرة الوحدة العربية وتكاملها في كل المجالات.
• لقد فرض النزاع على المغرب، تعطيل مسيرته نحو تحرير جزء لا يتجزأ من ترابه الوطني الذي هو في الوقت ذاته جزء لا يتجزأ من الأرض العربية الإسلامية، وتصفية المنطقة من الاحتلال الأجنبي. فمدينتا سبتة ومليلية السليبتان والجزر التابعة لهما، هي مناطق مغربية ومغاربية وعربية تعاونت إسبانيا والبرتغال على احتلالهما منذ طرد المسلمين من الأندلس، في جملة ما سيطرتا عليه وتقاسمتاه من السواحل المغربية شمالا وجنوبا وغربا، تعزيزا لخطوطهما الدفاعية خارج حدودهما التقليدية، للحيلولة دون أية محاولة لرجوع المسلمين إلى الأندلس مرة أخرى. فالمغرب، عوض أن يتفرَّغ لتحرير هذه الثغور العربية الإسلامية، معزَّزا بمساندة جيرانه وأشقائه العرب والمسلمين، أصبح مضطرا لتأجيل النظر في هذا الموضوع، وربما لوقت طويل، بحكم انشغاله بالمشكل المفتعل في الصحراء التي كانت هي الأخرى تحت الاحتلال الإسباني مثلما كانت المنطقة الشمالية من المغرب إلى غاية انتزاعها منه سنة 1975م. وها هي إسبانيا اليوم تكشّر عن أنيابها متمادية في خطتها لعرقلة أي حل لمشكل الصحراء في مساومة واضحة للمغرب من أجل التنازل النهائي عن قضية المدينتين، مع الاحتماء بالاتحاد الأوروبي الذي أصبح يعتبر هذه المنطقة الغالية من تراب المغرب داخلة ضمن حدوده وجغرافيته. ويحز في النفس حقا أن تتعاون جارتنا الشقيقة بصفة أو بأخرى، مع إسبانيا والاتحاد الأوروبي على إضعاف المغرب في موقفه ومسعاه لتحرير المدينتين، بالاستمرار في دعم كيان انفصالي في الصحراء، وحمايته وتمويله بعد خلقه من عدم، من دون أي مبرِّر معقول أو مفهوم من وجهة نظر المغاربة على الأقل، مع الادعاء المُوهِم بأن مسألة الصحراء هي مسألة تصفية استعمار، وكأن المغرب حين استرجع جزءا من أراضيه الجنوبية التي احتلتها إسبانيا، في جملة ما احتلته من أطرافه في الشمال والجنوب، أصبح بلدًا محتلاً ومستعمرا !!
• استمرار إغلاق الحدود البرية الجزائرية في وجه المغرب لسنوات طويلة، قُرئ في الأوساط المغربية على أنه محاولة لقطع جسور امتداده وتواصله الطبيعي مع المشرق، مما دفعه إلى البحث عن امتداد آخر، والتوجه نحو إفريقيا جنوبا وأوروبا شمالا. وفي هذه النقطة أيضا، نجد أن الخسارة مشتركة بين المغرب والجارة الشرقية والعالم العربي الذي يقف كالعادة موقف المتفرّج. وبهذا يكون الحلُم الذي طالما راود الاحتلال الفرنسي بقطع صلة المغرب بالمشرق لغويا وثقافيا وحضاريا، قد أصبح ممكن التحقيق. ولا سيما بعد أن غذَّته الشعارات التي أصبحت تروج في الفترة الأخيرة، بيت شريحة ولو ضعيفة ومهمشة من المجتمع المغربي، من قبيل: (تازة قبل غزة)، أو من قبيل: (المغرب ليس بلدا عربيا)، أو شعار (تمغربيت) أي التشبّث بالخصوصية المغربية المنغلقة على ذاتها والتحلّل من أي ارتباط بالهوية العربية الإسلامية، كل ذلك كان بسبب الدوافع الداخلية والخارجية التي ما فتئت تعمل على جرّ المغرب إلى فكّ ارتباطه التاريخي بالمشرق. ثم زاد من تعميق هذه الروح السلبية الداعمة لهذا التوجه، ما ترتب عن «خطيئة» الاستمرار في إغلاق الحدود بين بلدين شقيقين لم يفرقهما شيء عبر التاريخ قبل الاحتلال الفرنسي. فعبر حدودهما التي كانت مفتوحة في كل المراحل التاريخية، ظلت قوافل التواصل الحضاري والثقافي والديني واللغوي، فضلا عن قوافل الهجرة المتبادلة في الاتجاهين، تتعزّز بين المغرب والمشرق.
• بصفتنا وحدويّين ملتزمين، نتمنى من أعماق القلب ألا تنجر منطقتنا في النهاية إلى وضع يؤدي إلى تدخل مباشر لقوى أجنبية تفرض حلولها التي لا تخدم إلا مصالحها الخاصة. وندعو إلى تأسيس خلية تفكير من حكماء البلدين والمنطقة المغاربية ومن ينضم إليهم من حكماء العرب والمسلمين، لتنكب في استقلالية وحيادية تامة على إيجاد الاقتراحات والصيغ المناسبة والكفيلة بحل النزاع بين الشقيقتين، بطريقة أخوية، تتغلب فيها الحكمة وروح المصلحة العليا للشعبين، وذلك من أجل فسح الطريق لبناء وحدة المغرب الكبير التي نؤمن بها حق الإيمان كما آمن بها آباؤنا وأجدادنا، ونعتقد اعتقادا جازما أن قيام هذا الكيان الوحدوي بصيغة من الصيغ الفعّالة، هو الكفيل بتذويب كل الخلافات البينية والحدودية والتغلب على المصاعب التي تحول دون تقدم منطقتنا وازدهارها، وفي ذلك أيضا خدمة كبرى للعالم العربي وشعوبه المتعطّشة لرؤية اليوم الذي تنتصر فيه على خلافاتها ونزاعاتها وتتفرَّغ للبناء والتشييد.
آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M