الحرارة تُعيد الحياة لحرفة على حافة الانقراض بآسفي

28 أغسطس 2016 19:22
خطة ترامب للسلام.. وعد بلفور جديد

هوية بريس –  عبد الله النملي كاتب وباحث

حاجة الإنسان للماء كانت دافعا نحو اتجاه العديد من الناس إلى مزاولة حِرف بعينها، كان من بينها السقاء أو “الكراب” باللفظ المغربي الدارج، غير أن المصادر التاريخية، تكشف صعوبة كتابة تاريخ حِرفي اسمه “الكراب” هَمّشه المؤرخون في اختياراتهم، واهتم به الفرنسيون الذين جمعوا كل ما من شأنه تعريف الغرب بالمغرب. و”الكراب” تختلف أسماؤه، غير أن صفته واحدة، فهو الشخص الذي بقي مُتشبثا بحرفة أصبحت في خبر كان، يَسْقي العَطشى ويُبرد الحلوق الظّمأى، لا يفرض تسعيرة معينة، بل يقبل بما يجود به الناس عليه، وكأن عمله الصيفي تتمة للوحة صيفية لن تكتمل إلا بوجوده.

ومنذ عصور خلت، كانت مهنة “الكراب” من ضرورات الحياة المغربية، فقد كان صاحب هيبة في محيطه، فالكل يحترمه ويجل خدماته المائية، قبل أن تنافسه المياه المعدنية المُعَلّبة، ليستغني الزبون عن خدمة الكؤوس النحاسية، ويستبدلها بالكؤوس البلاستيكية، ويعوض خدمات “الكراب” بخدمة سريعة لآلة أو بائع متجول، مُستغنيا عن ناقوس إعلان “الكراب”، بلافتات الدكاكين المنتشرة على مد البصر. وبذلك فقد “الكراب” دورا أساسيا التصق به منذ القديم، وخاصة بعد ربط المنازل بشبكة توزيع الماء، وبات عمله مرادفا للفقر والتهميش، ومقصورا نسبيا على سقي الناس في الفضاءات العمومية، كما أمسى ماؤه غير مرغوب فيه من طرف الذين يتحرون جودة المياه التي يشربونها. وهو ما جعله مجرد كائن من التراث اللامادي بالمغرب، وحضوره اليوم، يقتصر فقط على الملصقات والإعلانات السياحية.

وعلى الرغم من أن الوسائل الحديثة أثرت على “الكراب”، وجعلت دوره في طريق الانقراض، لا يزال  “الكراب” بمدينة آسفي، يتمسك بعاداته، رغم أنه يدرك أن غالبية الناس لم تعد في حاجة إلى خدماته، إلا أنه يفعل ذلك من أجل الحفاظ على هذا الموروث الشعبي من الاندثار، والذي لازالت له حظوة عند بعض الناس، بما يُحرك فيهم من نوستالجيا. وقديما وقبل أن توجد إدارة المكتب الوطني للماء والوكالة المستقلة لتوزيع الماء، وتعم الحنفيات البيوت بآسفي، كان الناس يجدون صعوبة كبيرة في جلب المياه. ونتيجة لذلك، كان طبيعيا أن تختص بالمدينة طائفة من الناس تحترف عملية جلب المياه، سميت بالسقائين أو “الكرابة” على حد تعبير ساكنة آسفي. كانوا يحملون المياه في أكياس من الجلد، على شكل خروف أو ماعز، تُخاط وتُعد وعاء للماء، وكانت المياه تُباع على أساس القِربة، ثم تطور الأمر إلى ظهور نوع آخر من “الكرابة” يملؤون بالماء براميل كبيرة الحجم متصلة فيما بينها، تسمى ” البيتية”، يضعونها في عربات ذات عجلات يجرها حمار، يطوفون بها الحواري والأزقة، ليزودوا البيوت باحتياجاتهم من الماء.

وبعد سنوات من اختفاء “الكراب” من حواري آسفي، عاد “الكراب” مجددا في موجة الحرارة الأخيرة، بعد أن اعتقد الجميع أن حرفة “الكراب” قد ولّت إلى غير رجعة، لما أصاب المدينة من تطور غَيّر معالمها، وقضى باستبدال بعض الحِرف بأخرى، لكن حِرفة “الكراب” انبعثت من جديد، واحترفتها مؤخرا حتى النساء بآسفي، لارتباطها بعائلات معينة توارثتها أبا عن جد، نظرا لمحافظتها على وظيفتها الاجتماعية بالبوادي والأسواق والمواسم، وعدم  إجادة أصحابها أي حرفة أخرى، مما أدى إلى تمسكهم بها رغم  قلة ما تُدِرّه عليهم من أموال. وعلى طول شارع الرباط، وباب الشعبة، وشارع ادريس بناصر، وكورنيش أموني، وساحة مولاي يوسف، وشاطئ آسفي، انتشر مجموعة من باعة الماء الذين ينادون في الناس “أبرد أعطشان، اينوب اينوب”، في مواقع اختيرت بعناية. إنهم “الكرابة”، شخصيات محبوبة ومعروفة بلغتهم المميزة، وهندامهم المزركش، وسراويلهم الحمراء، ونواقيسهم الرنانة، والشكارة والترازة التي تقيهم حرارة الشمس، تجعلهم أشبه بالمكسيكيين، وقِرَبِهم المصنوعة من جلد الماعز، والمزينة أحيانا بالقطع  النقدية القديمة، وقد علقت عليها زليفات أو طاسات نحاسية.

اقتربت من أحد “الكرابة” للحديث معه، بعد أن طلبت منه شُربة ماء، رجل ينحدر من إحدى الدواوير القريبة من مدينة آسفي، بلغ من الكِبَر عُتِيا، وتبدو عليه كل علامات الفقر والعَوز البَيّن، لا يعرف شيئا اسمه التقاعد والتأمين الصحي، حدثّني والابتسامة لا تُفارق مُحياه، مؤكدا أن “مهنة “الكراب” صارت جزءا من الماضي، وتعيش أيامها الأخيرة، بعدما داستها عجلات التطور، وانتهى عمرها الافتراضي”. مضيفا أن “عهد القِرْبَة قد ولّى واستغني عن خدماتها مع ظهور المبردات العصرية للحفظ والحفاظ على درجات البرودة “. وتابع قائلا أن “زبناء “الكراب” في الماضي كانوا بآسفي من النساء الحوامل، لكنهن اليوم يتخوفن من الأمراض المنقولة، ويتوحمن على الحلويات والشوكولاته “، وذكر أن “بعض النساء المسنات، هن من لازلن يقبلن على ماء “الكراب”، وكذلك الأطفال الصغار الذين ما أن يسمعن جرس “الكراب” حتى يتسابقن مطالبين بشربة ماء تروي عطشهن وتبرد حلوقهن”. وعن سر النكهة الخاصة لشرب الماء من القِربة، أخبرنا “الكراب”، أن للقِرْبَة مكانة خاصة تَحوزها في النفوس في فصل الصيف، نتيجة الطعم المتميز للقطران وباقي المواد الأولية، التي تنساب ماء زلالا من القِربة المدبوغة بمادة القطران، والمصنوعة من جلد الماعز الذي تكسوه شعيرات فعالة في الحفاظ على تبريد الماء دون الحاجة إلى الطاقة”.

وفيما يشبه العتاب لعوادي الزمن، حدثنا “الكراب” والحسرة تعلو مُحياه، كيف أصبحت الحِرفة التقليدية الموغلة في القدم، تنحو نحو الزوال، لقلة الإقبال عليها، وتراجع نقط التزود بالماء، في إشارة للقرار الجماعي السابق القاضي بتقليص عدد كبير من السقايات العمومية المفتوحة في وجه العموم، حيث تحول أغلب “الكرابة” بآسفي إلى متسولين يمدون أيديهم طلبا للصدقة، كما أن بعضهم ما عادوا يحملون ماء في قِرَبِهم، ويكتفون بلباسهم التقليدي كنوع من الديكور اليومي، يتهافت عليهم أصحاب الصور التذكارية، ويؤتثون فضاءات الفنادق وأعراس كِبار القوم، بعد أن أصبح الماء يصل البيوت نظيفا، ويحمله الجميع مُعَبّأ في قوارير باردة ونظيفة، ودون مخاطر صحية. وفي الأخير،  أبدى “الكراب” حسرة كبيرة، لما أصبح يتعرض له من سخرية، حينما يطلق بعض الناس لقب “الكراب” على بائعي الخمور. وفي ذلك ظلم كبير لهذه المهنة الشريفة، فشتان بين يروي العطشى بالماء البارد بالمقابل أو بدونه، و من يبيع الخمور المحرمة للمسلمين.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M