الدكتور العثماني يكتب: ما هي أسباب المرض النفسي؟

05 أغسطس 2022 16:31

هوية بريس- د. سعد الدين العثماني
[email protected]

من الأسئلة التي تحير الكثير من المرضى وأسرهم هي كيف يأتيهم المرض النفسي، وما هي العوامل التي تتسبب فيه. وأحيانا يتبنون الكثير من الأجوبة الرائجة في الثقافة الشعبية، والتي هي في أغلبها مجانبة للصواب، ولا أساس لها في الواقع، وتدخل في نفق من الخرافة والشعوذة.
وقد قلنا في حلقة سابقة بأن الأمراض النفسية هي ذات طبيعة موضوعية مثل الأمراض العضوية، كالسكري وضغط الدم وقرحة المعدة والتهاب اللوزتين وغيرها. فهي تشبهها من حيث العموم في طبيعة مسبباتها وفي تفاعلاتها، ولها عواملها التي قد تكون متعددة ومتداخلة. وقد نكون، في فترة معينة أو بالنسبة لحالة محددة، غير قادرين على إدراكها أو فهمها، لكنها موجودة وقابلة للدراسة، ولا مجال لنسبتها إلى قوى غيبية من جن أو غيره.
وطيلة القرن الماضي، كان أصبع الاتهام يوجه للأسر حتى في بعض الأوساط العلمية، ووضعت في مقدمة أسباب الأمراض النفسية طريقة تعامل الأسر مع أبنائها وطريقتها في التربية. ورأينا أمهات يشعرن بتأنيب الضمير بسبب هذه الاعتقادات.
لكن مع تطور البحث العلمي، أصبح المتخصصون يفهمون أكثر – والحمد لله – عن جذور الأمراض النفسية. وأصبح التفسير المقبول علميا اليوم هو أن هذه الأمراض ليست نتيجة عامل أو سبب واحد، بل هي نتيجة تفاعل معقد لعدة عوامل وراثية وجينية وبيولوجية ونفسية واجتماعية وغيرها.
وهذه العوامل تنقسم إلى نوعين هما:
– النوع الأول الرصيد الجيني والبيولوجي للفرد، وتعطينا “الأسباب المهيئة” للمرض النفسي. فقد أثبتت العديد من الدراسات في علم الوراثة وعلم الأعصاب وعلم النفس الدور الكبير للرصيد البيولوجي في ظهور المرض النفسي. فغالبًا ما يصاب بالاضطراب النفسي أشخاص لديهم استعداد وراثي أو جيني. وإن كان ذلك الاستعداد قد يكون ضعيفا وقد يكون قويا. وقد يتعلق الأمر باضطراب بيولوجي في النواقل العصبية في الدماغ، أو تأثيرات الحمل المتعسر أو الولادة الصعبة. لكن هذه العوامل البيولوجية لا تؤثر بشكل ميكانيكي مباشر، بل تتفاعل مع البيئة المحيطة بالفرد بمختلف مكوناتها، حسب قوت تلك العوامل أو ضعفها.
– النوع الثاني البيئة المحيطة بالفرد، وتعطينا “الأسباب المساعدة” لظهور المرض النفسي. وتتكون أساسا من الأسرة والمجتمع ومؤسسات التنشئة الاجتماعية وكل العوامل الخارجية ذات التأثير على الفرد. فهناك الشروط التي تكونت فيها شخصية الطفل النفسية طيلة السنوات الأولى من عمره. وهي مرحلة تشكل نفسيته. لذلك فإن أحداث تلك المرحلة المؤلمة بالخصوص تؤثر إلى حد ما. وهذا قد يسبب عوامل نفسية مساعدة على الإصابة بالمرض النفسي مثل تدني احترام الذات وصعوبة التكيف مع مواقف الحياة المختلفة وغيرهما. كما تؤثر مشاكل الصحة الجسمية وعوامل الإجهاد وأحداث الحياة المؤلمة والأزمات الاجتماعية، فتكون كذلك عوامل مساعدة.
لكن يجب أن نشير إلى أنه على المستويين قد تكون هناك “عوامل خطورة”، مثل الأمثلة التي أشرنا إليها، كما يمكن أن تكون هناك “عوامل حماية” تخفف من تأثير عوامل الخطورة. ومن أمثلة عوامل الحماية: التمتع بصحة بدنية جيدة، والقدرة على طلب المساعدة، ووجود حاضنة جيدة من الأسرة، والعلاقات الاجتماعية الإيجابية وغيرها.
إن النتائج العملية التي نريد التأكيد عليها هنا هي بالخصوص:
1 ـ أن المرض النفسي لا ينتج عن عامل واحد محدد، بل عن مجموعة عوامل متداخلة ومتفاعلة بطريقة معقدة.
2 ـ تعقد العلاقة المذكورة وصعوبة تحديد التأثير المحدد لعامل معين، إلى حد أن الفصل بين الوراثي والجيني والعضوي والنفسي والاجتماعي وغيرها متعذر، بل يعتبره بعض الباحثين زائفا غير واقعي.
3 ـ إن اللوم في الإصابة بالمرض النفسي لا يقع على الشخص المصاب ولا على أسرته، وإن كان لتصرفهما دور في تطوره بعد ظهوره، سواء نحو التحسن أو نحو التعقيد.
4. لسنا ملزمين في علاج المرض النفسي بالبحث عن الأسباب والعوامل، فهذا يكون في الغالب متعذرا غير متيسر. لكن يمكن تشخيص المرض وفق آخر المعطيات العلمية ووصف العلاجات المناسبة. وهذا كاف للتخفيف من آلام المرضى ومعاناة عائلاتهم.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M