العلمانيون المغاربة والمعارك الوهمية!

25 فبراير 2024 10:14
دعاة الحريات الفردية

هوية بريس – الصادق بنعلال

(إن العلمانيةَ الشاملةَ ليستْ فصلاً للدينِ عن الدولة، بل فصلٌ لكل القيمِ عن مُجملِ حياةِ الإنسان، ونزعٌ للقداسةِ عنه، بحيث يتحولُ العالمُ إلى مادةٍ استعماليةٍ يُوظِفُها القويُّ لحسابِه، وهو ما يؤدي إلى الحداثةِ الداروينيةِ وتحويلِ العالم إلى حلبةِ صراعٍ، فهي علمانيةٌ تُنْكِرُ إنسانيةَ الإنسان، فيتمرَّدُ عليها كلُّ من يهتمُ بمصيرِ الإنسانِ في هذه الأرض): البروفيسور عبد الوهاب المسيري

على إثر حادثة حرق متطرف سويدي نسخة من القرآن الكريم في العاصمة ستوكهولم يوم الأربعاء 23/6/28، اتخذت المملكة المغربية موقفا سليما ومشرفا، تجلى في استدعاء سفيرها في هذه الدولة الأوروبية، تعبيرا واضحا وحازما عن التنديد بهذا السلوك الأرعن المستفز، الذي يتعارض والمبادئ والمواثيق والقيم الإنسانية، الداعية إلى الأخوة والسلام والتسامح وقبول الآخر.

وفي الأثناء كنا ننتظر أن تنهج “الأصوات العلمانية” ببلادنا مسلك الصواب، وسبيل الحياد والموضوعية وتخرج بموقف بناء يتماهى ومنطق الدولة المغربية، الذي حظي باحترام وتقدير الشعب المغربي قاطبة، لكن للأسف أدعياء العلمانية في بلدنا العزيز أثبتوا أنهم بارعون فقط في استهداف ثوابت الأمة، وليسوا مستعدين “للنضال” إلا عندما يتعلق الأمر بالقضايا الوهمية، والمعارك غير المطابقة للواقع الحضاري والثقافي للوطن، مما يجعلهم يضيعون فرص التصالح مع القيم المجتمعية بقدر كبير من الاندفاع والتسرع. وفي هذا السياق لا يسعني إلا أن أعيد نشر مقال صحفي يعود إلى سبع سنوات، يلخص آليات اشتغال بعض المنتسبين للمنجز “العلماني” المغربي، ومحدودية نظرتهم إلى المجتمع والإنسان والحياة.

رغم قناعتنا التامة باستحالة نجاح أي تجربة سياسية علمانية بحصر المعنى في الدول العربية – الإسلامية، لعوامل سوسيو- ثقافية مخصوصة، فإننا نميز بين جانب من المنجز العلماني الكوني باعتباره اجتهادا حضاريا بشريا بالغ الأهمية، يجسد منتهى ما وصلت إليه الثقافات الإنسانية الراقية من مأسسة المجتمعات و عقلنة الفعل السياسي العام، و بلورة أنساق مجتمعية متشبعة بالقيم الإنسانية الرفيعة الداعية إلى العدل و المساواة و التسامح و قبول الآخر، في ظل نظام سياسي ديمقراطي يفسح المجال للتعددية السياسية و المنافسة الشريفة على السلطة بين الهيئات الحزبية الحقيقية ، الحاملة لرؤى و برامج مجتمعية واقعية .. وبين” العلمانية” العربية الاستئصالية التحكمية، الهادفة إلى فرض نموذج حياتي نوعي، مع إقصاء موغل في التطرف لاختيارات شعبية أخرى، والمصرة على استهداف المشترك الديني والوطني، المطمئنة للمساندة المعنوية واللوجستيكية لسياقات سياسية – أيديولوجية غير ودية؛ إزاء الخصوصيات والقيم المجتمعية بعموم اللفظ.

ومن الواضح أن مجموعة من الفاعلين السياسيين والمثقفين العرب، مع بعض الاستثناءات، والذين يرفعون يافطات الليبرالية والعلمانية والحداثة.. هم أبعد الناس عن روح العصر، وأدبيات التنظير السياسي العالمي القائم على أسس التعايش السلمي وبديهية قاعدة تدبير الاختلاف بين كل ألوان طيف المجتمع، لا بل إنهم خارج إطار ما بعد حراك ما سمي بالربيع العربي، وغير معنيين بالتحولات السياسية والعسكرية الرهيبة إقليميا ودوليا.

وكمثال يجسد بجلاء هذه الحقيقة الاجتماعية المؤلمة ما عاشته الساحة الإعلامية المغربية من ثرثرة مملة حول مسألة القيم و”الحريات الفردية”، خاصة بعد توالي سلسلة من الوقائع الفنية والاجتماعية والثقافية، في ميدان السينما والغناء.. ونحن إذ ندين بشدة، المساس بحرية الفكر والتعبير، ونندد بقوة بالاعتداء على الحريات الفردية، فإننا نعبر عن خيبة أملنا حول ما يصدر عن بعض ممثلي الصف” العلماني “من انتهاج سلوك غير عقلاني لا يدرك السياق الثقافي والاجتماعي المخصوص، وإيقاع العملية السياسية المغربية البطيء، خاصة وأن مواضيع من قبيل الإجهاض والحريات الجنسية وبرامج المقررات المدرسية.. تحظى بمناقشة حادة داخل غالبية المجتمعات الغربية المتقدمة جدا في مجال ثقافة حقوق الإنسان، والحقيقة أن أدعياء العلمانية بالمغرب ضيعوا فرصا ذهبية للتصالح مع الشعب المغربي الذي ينظر إليهم باعتبارهم أطرافا تستهدف قيم المجتمع وثوابت الأمة، و يستصغرون الدستور الذي صوت عليه الشعب بأغلبية مطلقة، وغني عن البيان التذكير للمرة الألف أن الدستور المغربي وهو أسمى قانون للبلد، يقر بأولوية احترام المواثيق والاتفاقيات الدولية الداعمة للعدالة والمساواة وحرية التعبير والتفكير والمعتقد.. شريطة أن يندرج كل ذلك في إطار أحكام الدستور وثوابت المملكة وقوانينها.

فمتى يدرك ممثلو” العلمانية” المغربية وضعهم الاعتباري المثير للشفقة، المتمثل في السباحة ضد القواعد المجتمعية والثوابت الثقافية والاجتماعية والدينية للأمة؟ متى يعون أن انهزامهم في الاستحقاقات السياسية ليس نقيصة في حد ذاتها، بل العيب هو التمادي في انتهاج مسلكيات تنزع نحو العناد روح الاستئصال والهيمنة ورفض الآخر؟ متى يفهمون أن مكانة خصمهم السياسي (التيار الإسلامي) ليست في قوته الذاتية عدة وعتادا، بل في ضعفهم وابتعادهم عن نبض المجتمع وآلام المواطنين وأحلامهم!؟ متى يقتنعون بأنهم ليسوا وحدهم في المجال الوطني العام، وأنهم محكومون بالتعايش والتعاون مع أطراف سياسية أخرى من أجل مصلحة البلد وتجنيبه المخاطر المحدقة به؟ وأخيرا وليس آخرا متى يستشعرون أن جوهر الصراع في راهن المغرب ليس بين “العلمانيين والمحافظين”، وليس بين “الحداثيين والتقليديين”.. بل إن الصراع منحصر بين المحظوظين والمحرومين، بين المدافعين عن الديمقراطية والإصلاح وبين الاستغلاليين ورموز الفساد؟

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M