العلم النافــــع وعلامات أهله (1)

16 أغسطس 2023 11:37

هوية بريس – إسماعيل المرغادي

(تلخيص لكتاب “بيان فضل علم السلف على علم الخلف” للحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى)

الحمد لله العليم الخبير، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله المعلم البشير النذير، وعلى آله وصحبه ذوي الفضائل الجمة والعلم الغزير.

أما بعد فإن العلم منه ممدوح وهو العلم النافع، ومنه مذموم وهو العلم غير النافع. ومثال الأول ما جاء في قوله تعالى: { قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} [سورة الزمر:9]، وقوله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} [سورة فاطر:28]، وقوله تعالى: {وقل رب زدني علما} [سورة طه:114]، ونحوها من الآيات. ومثال الثاني: ما جاء في قوله تعالى: {ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشترىه ما له في الأخرة من خَلَاقٍ } [سورة البقرة:102]، وقوله تعالى: {يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غفلون } [سورة الروم:7].

وجاء في السنة تقسيم العلم إلى نافع وغير نافع، والاستعاذة من العلم الذي لا ينفع وسؤال العلم النافع.

من ذلك ما جاء في صحيح مسلم عن زيد بن أرقم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: “اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ومن دعوة لا يستجاب لها”.[1]

وقد يكون العلم نافعا في نفسه لكن صاحبه لم ينتفع به كما في قوله تعالى: {مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا} [سورة الجمعة:5]، وقوله: {واتل عليهم نبأ الذي ءاتينه ءايتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطن فكان من الغاوين. ولو شئنا لرفعنه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هوىه } [سورة الأعراف:175-176].

وقد جاء في بعض الآثار ذكر أنواع من العلوم التي لا تنفع. كعلم الأنساب إذا زاد عن الحاجة، وعلم النجوم؛ وما ورد من النهي عن تعلم النجوم فـمحمول على علم التأثير لا علم التسيير، فإن علم التأثير باطل محرم، وفيه ورد الحديث المرفوع: “من اقتبس شعبة من النجوم، فقد اقتبس شعبة من السحر”.[2]

وأما علم التسيير فإذا تعلم منه ما يحتاج إليه للاهتداء ومعرفة القبلة والطرق كان جائزا عند الجمهور. وما زاد عليه فلا حاجة إليه وهو يشغل عما هو أهم، وربـما أدى التدقيق فيه إلى إساءة الظن بـمحاريب المسلمين في أمصارهم.

وكذلك التوسع في علم العربية لغة ونحوا، وهو مـما يشغل عن العلم الأهم، والوقوفُ معه يـحرم علما نافعا. ولهذا يقال: إن العربية في الكلام كالملح في الطعام. يعني أنه يؤخذ منها ما يُصلِح الكلام، كما يؤخذ من الملح ما يصلح الطعام.

وكذلك علم الحساب يحتاج منه إلى ما يعرف به حساب ما يقع من قسمة الفرائض والوصايا والأموال، والزائد على ذلك مما لا ينتفع به لا حاجة إليه، ويشغل عما هو أهم منه.

وأما ما أحدث بعد الصحابة من العلوم التي توسع فيها أهلها وسموها علوما، وظنوا أن من لم يكن عالما بها فهو جاهل أو ضال، فكلها بدعة. ومن ذلك ما أحدثته المعتزلة من الكلام في القدر وضربِ الأمثال لله تعالى.

وفي صـحيحي ابن حبان والحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا: “لا يزال أمر هذه الأمة موافيا ومقاربا ما لم يتكلموا في الولدان والقدر”[3].

والنهي عن الـخوض في القدر يكون على وجوه:

منها: ضرب كتاب الله بعضَه ببعضٍ فينزع المثبت للقدر بآية والنافي له بأخرى ويقع التجادل بذلك.

ومنها الخوض في القدر إثباتا ونفيا بالأدلة العقلية، كقول القدرية: لو قدّر وقضى ثم عذب كان ظالما. وقول من خالفهم: إن الله جبر العباد على أفعالهم، ونحو ذلك. تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.

ومنها الخوض في سر القدر فإن العباد لا يطلعون على حقيقة ذلك.

وأما ما أحدث من الكلام في ذات الله وصفاته بأدلة العقول فأهله انقسموا إلى قسمين:

أحدهما: من نفى كثيرا مما ورد به الكتاب والسنة لاستلزامه عنده التشبيه بالمخلوقين، وهذا طريق الجهمية والمعتزلة. وقد اتفق السلف على تبديعهم وتضليلهم.

والثاني :من رام إثبات ذلك بأدلة العقول التي لم يَرِدْ بها الأثرُ, ورد على أولئك مقالتهم, كما هي طريقة مقاتل بن سليمان ومن تابعه كنوح بن أبي مريم. وهو أيضا مسلك الكرامية.

وقد أنكر السلف على مقاتل قوله في رده على جهم بأدلة العقل وبالغوا في الطعن عليه.

والحق ما عليه السلف الصالح من إمرار آيات الصفات وأحاديثها كما جاءت من غير تفسير لها ولا تكييف ولا تمثيل. ولا يصح عن أحد منهم خلاف ذلك البتة. وهو مذهب أئـمة الإسلام أحمد بن حنبل وابن المبارك والثوري والأوزاعي والشافعي ومالك وإسحاق وأبي عبيد وغيرهم.

ومما يشغل عن العلم النافع الجدال والخصام والمراء في مسائل الحلال والحرام، كالذي أحدثه فقهاء العراقين في مسائل الخلاف بين الشافعية والحنفية، وصنفوا كتب الخلاف ووسعوا البحث والجدال فيها, وفي الحديث المرفوع: “ما ضل قوم بعد هدى إلا أوتوا الجدل. ثم قرأ: {ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون} [سورة الزخرف:58]”.[4] وكان مالك رحمه الله يعيب كثرة الكلام والفتيا، ويقول :يتكلم أحدهم كأنه جمل مغتلم, يقول: هو كذا هو كذا, يهدر في كلامه. وقيل له: الرجلُ يكون عالما بالسنن, يجادل عنها؟ قال: لا ولكن يخبر بالسُّنَّة فإن قُبِل منه وإلا سكت.

وقال: المراء والجدال في العلم يذهب بنور العلم.

وكان يقول في المسائل التي يسأل عنها كثيرا: لا أدري. وكان الإمام أحمد يسلك سبيله في ذلك.

فهذه كانت طريقة السلف, ومع ذلك فإن في كلامهم التنبيه على مآخذ الفقه ومدارك الأحكام بكلام وجيز مـختصر يُفهَم به المقصود من غير إطالة ولا إسهاب. وفيه من رد الأقوال المخالفة للسنة بألطف إشارة وأحسن عبارة, بحيث يغني ذلك من فهمه عن إطالة المتكلمين في ذلك بعدهم.

فما سكت من سكت عن كثرة الجدال من السلف جهلا ولا عـجزاً، ولكن سكتوا عن علم وخشية لله تعالى. ولا تكلم من توسع بعدهم باختصاصه بعلم دونهم، ولكن حباً للكلام وقلة ورع.

وقد فُتِن كثير من المتأخرين بهذا، وظنوا أن من كثر كلامه وجداله وخصامه في مسائل الدين فهو أعلم ممن ليس كذلك، وهذا جهل محض[5].

وانظر إلى أكابر الصحابة وعلمائهم كأبي بكر وعمر وعلي ومعاذ وابن مسعود وزيد بن ثابت كيف كانوا؟ كلامهم أقل من كلام ابن عباس وهم أعلم منه. وكذلك كلام التابعين أكثر من كلام الصحابة، والصحابة أعلم منهم. وكذلك تابعوا التابعين أكثر من كلام التابعين والتابعون أعلم منهم. فليس العلم بكثرة الرواية ولا بكثرة المقال ولكنه نور يُقذَف في القلب يَفهَم به العبد الحقَّ ويـميز بينه وبين الباطل, ويعبر عن ذلك بعبارات وجيزة محصلة للمقصود.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم واختُصِر له الكلام اختصارا.

وكان يحدث حديثا لوْ عَدَّه العادُّ لأحصاه. وفي الترمذي وغيره مرفوعا: “إن الله ليبغض الرجل البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة بلسانها”.[6]

وقال ابن مسعود رضي الله عنه: “إنكم في زمان كثير علماؤه قليل خطباؤه, وسيأتي بعدكم زمان قليل علماؤه كثير خطباؤه”.

وقد شهد النبي صلى الله عليه وسلم لأهل اليمن بالإيمان والفقه, وأهل اليمن أقل الناس كلاما وتوسُّعا في العلوم لكن عِلْمُهم علم نافع في قلوبهم، ويُعبِّرون بألسنتهم عن القدر المحتاج إليه من ذلك، وهذا هو الفقه والعلم النافع.

ومما أحدث من العلم؛ الكلام في العلوم الباطنة من المعارف وأعمال القلوب وتوابع ذلك، بـمجرد الرأي والذوق أو الكشف، وفيه خطر عظيم، وقد أنكره الأئمة.

وقد أغرق قوم في هذا الباب حتى ادعوا أن أولياء الله أفضل من الأنبياء أو أنهم مستغنون عنهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]  أخرجه مسلم (2722).

[2]  أخرجه أيضا أبو داود (3905)، وابن ماجه (3726)، وأحمد (2000)، وحسنه الألباني.

[3]  أخرجه الطبراني في الكبير (12764) وابن حبان (6724) والحاكم (93) وقال: “هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَا نَعْلَمُ لَهُ عِلَّةً وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ”، وأقره الذهبي. وصححه الألباني.

[4]  أخرجه الترمذي (3253)، وابن ماجه (48)، وأحمد (22204). وحسنه الألباني.

[5]  قلت: وفي زماننا هذا أكثر وأكثر. لا سيما مع وسائل التواصل في الأنترنت مثل اليوتيوب والفيسبوك وغيرهما، وصار كل من شاء يقول ما شاء، وكثر الجدال والكلام والردود، والردود على الردود، وكثير من ذلك لأجل الانتصار للنفس لا لنصرة الحق وابتغاء ما عند الله. وبعض الناس لا تنزل نازلة أو تقع أو واقعة إلا وسارع إلى التعليق عليها وبادر بالإفتاء فيها، وتسجيل المقاطع الطويلة المملة، وهو يرى أهل العلم الكبار ساكتين متريثين، وإذا اضطروا إلى الكلام تكلموا بكلام مختصر يسير. نسأل الله السلامة والعافية. قيل لحمدون بن أحمد: ما بال كلام السلف أنفع من كلامنا؟ قال: لأنهم تكلموا لعز الإسلام ونجاة النفوس ورضاء الرحمن، ونحن نتكلم لعز النفوس وطلب الدنيا وقبول الخلق.

[6]  أخرجه أبو داود (5005)، والترمذي (2853)، وأحمد (6543). وصححه الألباني.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M