حرب الصوامع.. تفاصيل خطة فرنسا لإخضاع مساجد الجمهورية

30 يناير 2022 18:07
عداء أبو أزمة للمسلمين.. السلطات الفرنسية تبدأ إجراءات لإغلاق مسجد جديد

هوية بريس – المهدي الزايداوي (الجزيرة)

“عندما تبنون صومعتكم، ستصعد صلاة أخرى نحو سماء (إيل دو فرانس)، لكن هذه الصلاة الجديدة لن تثير بحال غيرة أبراج كاتدرائية (نوتر دام دو باري)”

الماريشال “ليوتي”، المقيم الفرنسي العام السابق بالمغرب، متحدثا عن مشروع بناء مسجد باريس الكبير


هناك تراتبية ما لكل شيء، ينطبق ذلك حتى على الدين في دولة شديدة العلمانية مثل فرنسا، كما يوضح تصريح الماريشال “ليوتي” ويُؤكِّده العديد من التصريحات المماثلة التي صدرت عن شخصيات سياسية وإعلامية فرنسية. ففرنسا بلد أبيض كما يقول “شارل ديغول”، كما أن المسيحية الكاثوليكية تأخذ صدارة الأديان في البلاد بوصفها دين فرنسا غير الرسمي، ثم بعدها يأتي الإسلام الذي فرضته العلاقات التاريخية بين فرنسا والدول التي خضعت لاستعمارها، فأمدَّتها بجالية إسلامية تمثل اليوم 10% من مجموع السكان.

لم يعد سرا أن تلك الجالية باتت الهم الكبير الجاثم على صدر فرنسا التي تحاول تدشين “إسلام فرنسي” مناسب لها. فقد أصبح ذلك الدين القادم من المستعمرات الدين الثاني في البلاد، ومن ثم وجبت السيطرة عليه، والسؤال الآن هو كيف؟ تتعدَّد السُبُل، ولكن ثمَّة سبيل أساسي لهذا المشروع القديم الجديد، وهو السيطرة على المساجد لإنتاج إسلام علماني وفق أهواء الساسة في بلاد الأنوار.

“صراط فرنسا” المستقيم

ترتبط صورة “المسجد في فرنسا” بمسجد باريس الكبير الذي أسسته فرنسا حجرَ أساسٍ في مشروعها الرامي إلى دفع مسلمي المستعمرات إلى التطبيع معها، بيد أنه لم يكن أول “بيوت الله” فوق أراضي الجمهورية العلمانية، ففي سنة 1856 خصَّصت فرنسا قطعة أرضية داخل مقبرة باريس لدفن جنود الإمبراطورية العثمانية الذين قاتلوا في إطار حلف بين الخلافة وفرنسا أثناء حرب القرم، ورغم وجود مكان مُصغَّر للصلاة، فإنه يصعب الحديث عنه بوصفه “مسجدا” بالمعنى المعروف.

انتظرت فرنسا حتى سنة 1905 لتبني أول مسجد “عصري” في مستعمرة “سان دوني دي لا ريونيون” القريبة من مدغشقر والخاضعة حتى اليوم تحت السيادة الفرنسية. بعد 11 سنة، عرفت الأراضي الفرنسية الأوروبية هذه المرة بناء مسجد بمقاطعة “نوج سور مارن”، الذي أتى بناؤه في إطار تدشين فرنسا عددا من المرافق الخاصة بالجنود المسلمين القادمين من المستعمرات، الذين قاتلوا مع باريس في الحرب العالمية الأولى. وحصل المسجد على دعم لبنائه تحت عينَي “غاستون دوميرغ”، وزير المستعمرات الفرنسي، وأكَّد أئمة المسجد من الجنود المسلمين أنهم أبناء فرنسا الذين قدموا للدفاع عنها تطوعا حتى آخر نَفَسٍ حمايةً لهذه الأم النبيلة التي تمثل “الحق والصراط المستقيم”(1).

تعاملت فرنسا منذ احتلالها لدول عربية وإفريقية ذات شعوب مُسلمة ببراغماتية شديدة في هذا الصدد، فلم يكن ملف “الدين” على حساسيته الكبيرة غائبا عن صناع القرار في باريس، الذين أدركوا حجم الطاقة الروحية القوية التي يقدمها الإسلام للمؤمنين به، ولذا لم يكن هنالك حل لحفظ الخضوع في المستعمرات إلا بمحاولة السيطرة الدينية على هذه الشعوب، فتارة فُتِح باب التنصير على مصراعيه للبعثات التبشيرية حتى تنتشر المسيحية، وتارة جرت محاولات لتأطير الإسلام نفسه بسبب ضعف النتائج التي حققتها إستراتيجية التنصير(2). وفي سبيل ذلك، أنشأت الحكومات الفرنسية عددا من الهيئات كُلِّفَت بالعمل على هذا الملف، فقد ظهرت اللجنة الوزارية لشؤون المسلمين سنة 1911، واللجنة العليا لمنطقة البحر الأبيض المتوسط بمختلف مفوضياتها سنة 1935، إلى جانب مركز الدراسات العليا للإدارة الإسلامية سنة 1936، وانضم إلى هذه الهيئات عدد لا بأس به من المفكرين والمستشرقين للتنظير في هذه المسألة، مثل “لويس ماسينيون”، المتخصص في دراسة الإسلام، و”روبيرت مونتاني”، عالم الاجتماع والسياسة المهتم بالشؤون العربية، و”شارل أندريه جوليان” المؤرخ المهتم بمنطقة شمال إفريقيا، وآخرين(3)(4).

"لويس ماسينيون"، المتخصص في دراسة الإسلام

(“لويس ماسينيون”، المتخصص في دراسة الإسلام)

كان الهدف من هذا التحركِ دعمَ التوسع الاستعماري والسيطرة السياسية والأمنية على شمال إفريقيا التي عُدَّت بوابة الإمبراطورية الفرنسية في إفريقيا. وقد تعاملت الإدارات الفرنسية بحذر كبير مع الإسلام بوصفه أيديولوجيا احتجاجية تحفِّز تحرُّكات مجتمعية قوية، وللمفارقة، ما زالت الدولة الفرنسية تتعامل مع الجالية المسلمة المقيمة على أراضيها الآن بالمنطق نفسه رغم تغيُّر معطيات عديدة، وتجرُّد غالبية المسلمين من أي رغبة في مواجهة النظام القائم مباشرة، وإن روَّج الخطاب اليميني لعكس ذلك.

في النهاية، كان ضروريا لفرنسا أن تثبت انفتاحها على المسلمين، لا سيِّما أولئك الذين يدينون لها بالولاء وحملوا رايات الدفاع عنها خفّاقة في الحرب العالمية الأولى، ولذا قرَّرت السلطات الفرنسية تأسيس مسجد باريس الذي عُدَّ رد جميل للمقاتلين المسلمين الذين قضوا دفاعا عن الجمهورية الفرنسية(5)، وهو مسجد ذو تصميم مشرقي يُذكِّر الزائر بالأندلس المفقود، وأَدارَه “سي قدور بن غبريط”، الموظف السامي الجزائري المسلم بوزارة الشؤون الخارجية الفرنسية. ومن أجل بناء هذا المسجد، أصدرت السلطات الفرنسية قانون 9 يوليو/تموز 1920 للمشاركة في تمويله بمبلغ 500 ألف فرنك فرنسي، وشاركت بلدية باريس في أعمال الإنشاء بمبلغ مليون و600 ألف فرنك، وتبرَّعت بأرض مساحتها 7400 متر مربع، كما أسهمت الحكومة الجزائرية بمبلغ 100 ألف فرنك، وأسهمت الرباط بالمبلغ نفسه، مع 30 ألف فرنك من تونس، و5 آلاف فرنك من تشاد.

تمكَّنت فرنسا بفضل هذه الإسهامات من جمع مبلغ 3 ملايين فرنك، ثم اختارت “بول فالروف”، الموظف السامي بوزارة الداخلية، للوقوف على تمويل الأشغال، واستُبعد “بن غبريط” الذي كان يُعَدّ لدَور آخر، وهو تسيير المسجد بعد افتتاحه. وظل مسجد باريس منذ بنائه فاعلا سياسيا بارزا في المشهد الإسلامي بفرنسا، إذ حرصت الدولة على إبقاء ولائه مرتبطا بها، كما أنه تدخَّل سياسيّا حين سنحت له الظروف. ففي سنة 2017، حثَّ المسجد في بيان له المسلمين على التصويت لصالح “إمانويل ماكرون”، والوقوف في وجه “مارين لوبِن” التي حملت مشروعا يقسِّم الفرنسيين، ومن ثم بات له دور مهم في مشروع “إسلام فرنسا” تحت قيادة الرئيس الفرنسي الحالي(6).

"سي قدور بن غبريط"، الموظف السامي الجزائري المسلم بوزارة الشؤون الخارجية الفرنسية

(“سي قدور بن غبريط”، الموظف السامي الجزائري المسلم بوزارة الشؤون الخارجية الفرنسية)

إسلام قنصلي في قالب باريسي
مع نهاية الستينيات، مثَّلت الهجرة في فرنسا ظاهرة مؤقتة، إذ عاش المهاجرون ضمن أسطورة “العودة إلى الوطن بعد ضمان الأمان المادي”، ومن ثم كان التحدي هو منع اندماجهم في المجتمع الفرنسي حتى لا يطيب لهم البقاء في أرض المهجر، الذي لا تحبذه فرنسا ولا تريده الدول الأصلية للعمال أيضا. وقد بدأت هذه الدول التي تصدَّرتها الجزائر وتركيا، ثم المغرب بدرجة أقل، تستثمر في التعليم من أجل ربط التلاميذ بلغتهم الأم وثقافتهم الأصلية، ووقَّعت الحكومة الفرنسية عددا من الاتفاقيات مع هذه الدول تصب في هذا الاتجاه، عبر السماح لعدد من المعلمين بالقدوم إلى فرنسا لتدريس الثقافة واللغة المحلية بالمدارس لمساعدتهم على العودة دونما صدام ثقافي بين البلد الذي ولدوا فيه والبلد الذي قدم منه آباؤهم(7).

لم يقف الأمر عند هذا الحدِّ، بل حملت تلك السياسة هدفا دينيا، هو ضبط التوجُّهات الدينية لتلك الجاليات بما يتوافق مع الخط الداخلي للدولة، مع تجنُّب الدخول في بعض النقاشات الدينية ذات البعد السياسي. وقد اتبعت عدد من الدول سياستها الداخلية نفسها مع جاليتها المقيمة في فرنسا، باستثناء تونس التي كان لها وضع خاص على اعتبار أنها خطت خطواتها الأولى نحو العلمانية ذات الطابع الفرنسي. واستفاد المغرب والجزائر وتركيا من شبكاتهم الدبلوماسية لنسج شبكات من الجمعيات الإسلامية عبر الأئمة الذين أُرسِلوا إلى فرنسا، واعتُبِروا موظفين لهذه الدول وارتبطوا بعلاقات مباشرة مع الأجهزة الدبلوماسية لها، ومن ثم باتت المساجد على هذا النحو مجموعة من التجمُّعات الوطنية ذات الأبعاد القومية.

رأت السلطات الفرنسية في هذه الإستراتيجية سبيلا لتحقيق مكاسب شتى، فهي من جهة تساعد في حفظ الأمن الداخلي، إذ إن الإدارة الدينية عبر البلد الأم تعفي فرنسا من مواجهة احتجاجات هذه الفئات التي تعيش غالبيتها على هامش المجتمع الفرنسي، ومن جهة أخرى تُسهم في منع الجاليات من الاستقرار في البلاد. على سبيل المثال، اعتمدت فرنسا في تسيير شؤون الجالية الجزائرية على مسجد باريس الذي تمكَّن من تشكيل طيف من الفاعلين المسلمين حوله تعاونوا مع السلطات الفرنسية، ولكن في الوقت نفسه استقبلت فرنسا عددا من المعارضين الإسلاميين من الجزائر وتونس، وهو ما أقلق فرنسا والدول الأم لهم على السواء.

بدأت باريس تفكر في عدم فاعلية الطريقة القديمة في السيطرة على الإسلام داخليا، لذلك بدأت تطوِّر رغبة خاصة في التدخُّل لصنع إسلام محلي فرنسي علماني، وقد ظهرت الفكرة لأول مرة سنة 1989 مع وزير الداخلية “بيير جوكس”، لكنها اتخذت شكلا أوضح مع وصل “نيكولا ساركوزي” إلى وزارة الداخلية حاملا مشروعا يهدف إلى فصل الجاليات المسلمة، التي بدا أنها لن تعود إلى بلدانها الأصلية، عن أي قوى وصلات أجنبية. ثم شهدت رئاسة ساركوزي تأسيس المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، الذي ضم جمعيات وتوجهات مختلفة، لا سيِّما تلك المرتبطة بالمغرب والجزائر، حيث حرص كل طرف على الحضور داخل خريطة الإسلام الفرنسي، وعدم ترك المضمار للطرف الآخر. وقد تمكَّنت الفدرالية الوطنية للمسلمين ذات التوجه المغربي من الحصول على 16 مقعدا من أصل 41، فيما لم يحصل مسجد باريس المرتبط بالجزائر إلا على 6 مقاعد، وهو العدد نفسه الذي حصل عليه الأتراك.

French interior Minister Nicolas Sarkozy (L) shakes hands with Dalil Boubakeur, rector of the Paris Grand Mosque, October 05, 2002. During a visit to the Grand mosque Sarkozy vowed to fight racism vigorously after two teenagers of North African origin have been killed in France October 04 and three other youths wounded in violence that shocked the nation.

(الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي (يسار) ورئيس المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية دليل بوبكر (يمين))

إلى جانب هذه الجمعيات، ظهرت تيارات دينية ذات خريطة أيديولوجية واضحة، كما هو الحال بالنسبة إلى “الأحباش” الذين كانوا بمثابة عين نظام الأسد على الطيف الإسلامي في فرنسا. فقد حضرت سوريا عبر جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية التي تأسست بلبنان مطلع الثمانينيات عن طريق “عبد الله الهرري” الحبشي الإثيوبي الأصل، وحطَّت الجمعية رحالها في فرنسا سنة 1991، وتحوَّلت إلى خلية حملت لقب “الأحباش” الذين رفعوا شعار معاداة السلفيين والإخوان المسلمين. ولم تكن سوريا وحدها بالطبع من دول المشرق التي سعت لذلك الحضور، إذ عرفت فرنسا حضورا أقوى مع بداية التسعينيات للسلفية السعودية.

حضر التيار السلفي مستندا إلى الحضور السعودي في فرنسا عبر عدة آليات: أولها المنح الدراسية التي حصل عليها عدد كبير من الشباب المسلم في فرنسا للدراسة الدينية بالسعودية، وقد حصل هؤلاء العائدون من رحلة “طلب العلم” بالسعودية على احترام ووزن داخل الجالية الإسلامية؛ ما سمح للسلفية بالانتشار داخل المجتمع المسلم في فرنسا. بيد أن فرنسا تعاملت بحزم مع التيار السلفي، إذ طردت من فورها كل القيادات الدينية التي تبنَّت السلفية منهجا دينيا. أما الآلية الثانية فهي متابعة بعض مسلمي فرنسا لعدد من المشايخ السعوديين من حملة المشروع السلفي العلمي أو الفكر السلفي المدخلي على السواء، هذا وزار عدد من الدعاة السلفيين فرنسا لإلقاء الدروس والخطب واللقاء بالجالية الإسلامية حتى عام 2001، حين مُنِعوا بعد أحداث 11 سبتمبر(8).

صارت فرنسا ملتقى لأفكار وتوجُّهات دينية شتى ذات تأثير مباشر على الجالية الإسلامية، ومع نمو المسلمين ديمغرافيّا، شرعت الجمهورية المعروفة بعدائها الشديد لمظاهر التديُّن كافة في محاولة لتخليص نفسها من أي تأثير خارجي على المسلمين؛ لكونه لا يتفق مع النهج الديني الذي تريده باريس، ولا يطرد الدين من جميع مناحي الحياة كما تنُص اللائكية. وقد ظلت هذه المطالبات بفرض الرقابة على المساجد، وطرد الأئمة الأجانب، ومحاربة السلفيين والإخوان المسلمين ومن لفَّ لفيفهم، مجرد مطالب يهتف بها اليمين، حتى باتت مشروعا حقيقيا تبنَّاه ماكرون بنفسه، الذي يُصنَّف -للمفارقة- ضمن “الوسط” السياسي، ومن ثم بدأت فرنسا صفحة جديدة في علاقتها بالجالية المسلمة التي اتخذت من المساجد نقطة انطلاق لها.

رحلة البحث عن أئمة علمانيين

كلما اشتد الخطب، وحمي وطيس النقاش، وتحامل الجميع على المسلمين الذين يشار إليهم بالبنان عند الحديث عن كل نقيصة؛ استدعى الإعلام الفرنسي من باب الحيادية غير الجدية عددا من الأئمة المفروضين على المسلمين ناطقين باسمهم وممثلين لقضاياهم، ويتم اختيار هؤلاء الأئمة بعناية شديدة، وهم وإن كانوا يلبسون لباسا يوحي بهوية إسلامية، إلا أن كلامهم لا يخرج عن أمرين: الهجوم على المتطرفين من المسلمين، والثناء على فرنسا وتاريخها وفتحها أبوابها في وجه كل محتاج يرغب بالأمان وحقوق الإنسان والكثير من الحرية.

Imam of Drancy Hassen Chalghoumi poses before a tribute to beheaded French teacher Samuel Paty during Friday prayers at the mosque of Drancy near Paris, France, October 23, 2020. REUTERS/Charles Platiau

(“حسن الشلغومي”، إمام مسجد ضاحية درانسي)

يعرف المسلمون بعض هذه الأسماء وينكرون بعضها، لكنهم يعرفون “حسن الشلغومي”، الإمام الذي لا يتحدث الفرنسية إلا قليلا، لكنه الضيف المميز للبرامج الحوارية الساخنة، والنموذج الأهم للإمام الذي تريده فرنسا رُغم تأكيد السياسيين الفرنسيين على ضرورة إتقان الأئمة للفرنسية باعتباره شرطا من شروط الممارسة. ويُعَد الشلغومي عدوا “للإسلام السياسي”، وصديقا مُقربا من إسرائيل التي زارها ودعا لها أثناء حربها على غزة وأعلن صداقته مع جنودها أكثر من مرة(10). وعلى المنوال نفسه ثمّة نماذج أخرى أقل شهرة تريد فرنسا صقل الأئمة على شاكلته قبل اعتلاء منابر المساجد، وهو مشروع من أهم المشروعات التي يحاول ماكرون ووزير داخليته “جيرارد دارمنان” تحقيقها خلال ولايتهما وهُما على بعد أشهر قليلة من الانتخابات الرئاسية أبريل/نيسان المُقبِل.

ظهر الانشغال بموضوع صناعة الأئمة منذ حوالي 30 سنة تقريبا، ثم أصبحت إحدى أهم القضايا التي تشغل السياسة الداخلية والجهود الدبلوماسية الفرنسية. وقد بدأت الدولة تحركاتها المتذبذبة في هذا الصدد من خلال دعم مسجد باريس الكبير في إنشاء “معهد الغزالي” لتكوين الأئمة، ورغم رغبة فرنسا في خلق إسلامها الخاص وصناعة أئمة فرنسيين، فإن الخطوة لم تتحقق سريعا بسبب تعقيداتها الكبيرة. ففي سبتمبر/أيلول 2015، أي بعد مرور 13 سنة على مشروع ساركوزي، وقَّع وزير الخارجية الفرنسي “لورون فابيوس” اتفاقية مع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية بهدف تكوين 50 إماما بمعهد محمد السادس لتكوين الأئمة المرشدين والمرشدات، وذلك بهدف تخريج أئمة وفق برنامج ممتد لثلاث سنوات، على أن يخضع الأئمة بعد عودتهم من دراستهم الدينية لبرنامج آخر بإحدى الجامعات الفرنسية من أجل الحصول على شهادة جامعية حول العلمانية لشرح مكانة الدين في الدولة اللائكية (11).

في الثامن من أكتوبر/تشرين الأول من العام نفسه، وقَّعت وزارة الخارجية الفرنسية اتفاقية مع الجزائر، والتزمت وزارة الداخلية الجزائرية بموجبها بضرورة حصول الأئمة الموفدين إلى فرنسا على شهادة جامعية في “العلمانية”. وأتت هذه الاتفاقية بعد اتفاقية أولى سبقتها في ديسمبر/كانون الأول 2014 خلال زيارة رسمية لوزير الداخلية الفرنسي “برنارد كازانوف”، تطرق خلالها لموضوع الأئمة الجزائريين الذين يحطون الرحال في بلاده. وقد صرح “محمد عيسى”، وزير الشؤون الداخلية الجزائري، حينها قائلا بأن مهمة أئمة بلاده تكمن في الدعوة إلى إسلام متسامح ومنفتح، مضيفا أن “الأئمة سينهون دراستهم للقانون الفرنسي وللثقافة والهوية العلمانية للجمهورية الفرنسية بالمسجد الكبير بباريس”(12)(13).

واليوم، يبلغ عدد الأئمة المرتبطين بدول إسلامية فرنسا 301، منهم 151 تركيّا، و120 جزائريّا، و30 مغربيّا، لكن فرنسا أظهرت عبر قانون الانعزالية الأخير أنها ضاقت ذرعا بالتعاون التقليدي مع هذه الدول من أجل تأطير الجالية الإسلامية، ولذا، يسعى ماكرون للتخلص من هذا النوع من الأئمة، لكنه سيخلق مشكلات كثيرة بخطوته تلك، أولها أنه رغم عدم معرفة عدد من هؤلاء الأئمة بالفرنسية بوصفها لغة أولى، فإن محصولهم الشرعي يبقى مقبولا مقارنة بالأئمة المتطوعين، وهو ما يعني مشكلات كبيرة في الخطاب الديني كما يقول بعض المراقبين. أضف إلى ذلك أن هؤلاء الأئمة يتلقون رواتبهم من وزارات الشؤون الدينية لبلدانهم، وأن الاستغناء عنهم والاكتفاء بالأئمة المحليين يطرح مشكلة تأمين رواتبهم، لا سيِّما أن المساجد بالكاد تدفع مصاريفها العادية بدعم من المصلين، إذ يندر أن تصلي في فرنسا دون أن تسمع كلمة من خطيب الجمعة يطلب من المصلين دعم المسجد ماديا، “فالمؤمنون” هم سبيل التمويل الوحيد لهذه المراكز الإسلامية(14).

على كل حال، لم تثن هذه المعيقات الحكومة الفرنسية عن المضي قدما نحو مشروعها الكبير، وجاء الخبر اليقين في نوفمبر/تشرين الثاني عندما اجتمع الرئيس الفرنسي بممثلي المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية من أجل وضع خطة إنشاء “المجلس الوطني للأئمة”، وهو مجلس ستخوَّل له مراقبة عمل الأئمة، والسهر على تكوينهم تكوينا دينيا لا يتعارض مع علمانية الدولة. وستراقب السلطات المحلية عبر هذا المجلس عمل هؤلاء الأئمة بطريقة يسهل معها عزل غثهم عن سمينهم، في إطار إستراتيجية عامة يقودها وزير الداخلية الفرنسي “دارمنان”، الذي أثبت حضوره بإغلاق عشرات المساجد لأسباب تتراوح بين التطرف والإرهاب وبث خطاب كراهية تجاه الدولة أو التمييز ضد النساء أو عدم الالتزام بإجراءات الوقاية الروتينية.

بيد أن هذا المشروع الذي يهدف إلى ضبط الجالية الإسلامية شهد تعثرا كبيرا بعد أن أعلنت 4 جمعيات إسلامية يتزعمها مسجد باريس الكبير عن انسحابها من المجلس الفرنسي للديانة؛ احتجاجا على ما أسموه “القرارات الانفرادية” التي أقدم عليها “محمد موساوي”، رئيس المجلس، حيث أعلن المحتجون تشكيل مجلس وطني للأئمة خاص بهم(15)(16).

هذا التوجس والارتياب والحذر من الأطراف الإسلامية في علاقة بعضها ببعض، وفي علاقتها بالدولة في آن واحد، يأتي بسبب “وثيقة مبادئ الجمهورية” التي طلب وزير الداخلية الفرنسي من الجمعيات توقيعها في إطار خطوات محاربة الانفصالية. وقد نشر موقع “ميديا بارت”، الناشط في مجال التحقيقات الصحفية، مقتطفات من هذه الوثيقة التي لم يذكر الإعلام محتواها، إذ قال الموقع إن وزير الداخلية أصر على إدخال بعض الصيغ القاطعة، مثل التأكيد على بث الخطابات المحابية لفرنسا سياسيا داخل المساجد، مع اعتراف الموقعين بحياد الدولة وعدم نهجها لأي سياسات عنصرية أو مُغرقة في الإسلاموفوبيا، وأن كل ما ينشر ويقال في هذا الصدد ما هو إلا حملات تضليل تهدف إلى دفع المسلمين إلى الإحساس بالمظلومية التي تغذي كراهيتهم للدول والمجتمع.

هذا ونقل الموقع الفرنسي عن إمام لم يكشف عن هويته قوله: “لقد أصرَّت الحكومة على أن تخرج هذه الوثيقة بأسوأ نسخة ممكنة؛ حتى تدفع عددا من الجمعيات الإسلامية إلى عدم التوقيع عليها، ومن ثم يسهل عليها القيام بعملية فرز يُبعَد من خلالها هؤلاء الرافضون لهذه الوثيقة. وتفيد آخر الأخبار أن إحدى ضحايا هذه الوثيقة لن يكون سوى المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية نفسه، إذ فتكت الخلافات الداخلية به وبات قاب قوسين أو أدنى من الحلِّ، ويبدو أن مسجد باريس الكبير هو الذي سيصاحب وزارة الداخلية في مشروعها حتى آخر رمق”(17)(18).

الخنق عبر حبل التمويل

في تقرير لها حول معضلة تمويل المساجد داخل فرنسا، تحدثت جريدة “نيويورك تايمز” الأميركية عن مسجد مدينة “آنجيه” غربي فرنسا، حيث يعجز المسلمون في هذه المدينة حتى كتابة هذه السطور عن الحصول على فرصة إنشاء مسجد خاص بهم، فهُم يستعملون في صلواتهم مذبحا قديما سرعان ما يَضِيق بالمصلين، لا سيِّما في المناسبات الدينية مثل صلاة العيدين وصلوات الجمعة. وقد فشلت “جمعية مسلمي آنجيه” في الحصول على تمويل يكفي لإنهاء عمليات بناء المسجد الذي تهدف الجمعية إلى بنائه، بسبب رفض السلطات المحلية المشاركة في البناء (20).

يُعد بناء مسجد في فرنسا عملية معقدة وشائكة، إذ ينتمي المسلمون في غالبيتهم للفئات الأفقر في البلاد، ومن ثم فإن فرص التعويل على تمويل ذاتي ضئيلة للغاية، وزاد من هذه الصعوبة إغلاق منافذ التمويل الخارجي، بالإضافة إلى عدم المساواة لدى الدولة بين دور العبادة الإسلامية ودور العبادة المسيحية، إذ إنه بموجب قانون سنة 1905 الذي يفصل سلطة الدولة عن سلطة الكنيسة، فإن الدولة الفرنسية تعتبر دور العبادة التي بُنيت قبيل هذه السنة ملكا لها، وتقوم بصيانتها وترميمها عند الحاجة. ولم يصب هذا القانون في صالح المسلمين؛ لسبب بسيط، وهو أن فرنسا لم تضم أي مسجد في جنباتها قبل سنة إصدار القانون، فلم تشهد البلاد بناء مئات المساجد التي تعج بها اليوم إلا بعد سنة 1916، ومن ثم فإن تمويل المؤسسات الدينية الإسلامية يعود إلى 6 ملايين مسلم مقيم على الأراضي الفرنسية.

PARIS, FRANCE - NOVEMBER 7: A general view of the Grand Mosque of Paris tordered to close in a bid to curb the spike in Coronavirus cases on November 7, 2020 in Paris, France. France's 3.7 million Muslim population accounts for the largest Muslim community in Western Europe. A series of terrorist attacks in recent years has prompted the French government to introduce new laws that charter France's republican values, as part of a broad clampdown on radical Islam, creating tension in the communities. (Photo by Abdulmonam Eassa/Getty Images)

وفي المقابل، يستفيد 3.2 مليون مسيحي كاثوليكي من دعم الدولة الفرنسية للحفاظ على 40 ألف كنيسة تابعة للجمهورية، تُلبَّى طلباتها من أموال الضرائب العامة، كما ترعى الحكومة الفرنسية بموجب القانون نفسه 12% من كنائس البروتستانت و3% من المعابد اليهودية، ولكنها لا ترعى أيَّ مسجد على الإطلاق. يقول الخبير الاقتصادي “توماس بيكتي” في هذا الصدد إن الخطاب الذي يُصدَّر يستند إلى مبدأ عدم تمويل الدولة الفرنسية لدور العبادة، لكن هذا غير صحيح، فالدولة هي من تموِّل النسبة الكاسحة من كنائس فرنسا حسبما أقرَّ قانون فصل 1905، وتُخوَّل إلى البلديات المحلية سلطة الحفاظ على هذه الكنائس. فمثلا، تنفق بلدية “أنجيه” سنويا 650 ألف يورو لصيانة 10 كنائس كاثوليكية وكنيسة بروتستانتية ومعبد يهودي، فيما تدعم بمبلغ 3 آلاف يورو الجماعتين الإسلاميتين بالمدينة لصيانة دور الصلوات(21).

هذه المشكلة الكبيرة في التمويل تفسر تعثر وتوقف عدد كبير من مشاريع بناء المساجد ودور العبادة الإسلامية، بالإضافة إلى احتجاجات من طرف السكان المحليين أحيانا، الذين لا يريدون مسجدا على أراضيهم أو يرغبون بمنع التمويل الخارجي لهذه المساجد، رغم عدم وجود أي علاقات بين المساجد التي تم تمويلها من طرف المغرب والجزائر وتركيا والسعودية وبين الأحداث والتفجيرات التي عرفتها فرنسا في السنوات الأخيرة، حسب ما أكدته “ناتالي غولي”، البرلمانية الفرنسية عن حزب اتحاد الديمقراطيين والمستقلين (يمين الوسط).

هذا المأزق الكبير الذي تعاني منه الجمعيات الإسلامية يَعِد بمصير الإغلاق عاجلا أم آجلا للمساجد التي لن تستطيع دفع تكاليفها إذا أفلتت من قرارات الإغلاق التي يتخذها وزير الداخلية الفرنسية حاليا محتسيا قهوته كل صباح(22)، لتكتمل بذلك خطة الحصار الفرنسية لمساجد الجمهورية، التي بدأت بمحاولات باريس احتواء المسلمين ضمن إطار العلمانية، وانتهت بتوجهها إلى صناعة إسلام فرنسي على مقاسها، والضرب بيد من حديد على كل من يرفضون خطط التنوير القادمة من الإليزيه.

————————————————————————————————-

المصادر

  1. A la recherche de la première mosquée de France
  2. خدام الرب في المملكة.. لماذا يشعر المغرب بالقلق من حركات التبشير المسيحي؟
  3. Les racines coloniales de la politique française à l’égard de l’islam
  4. المصدر السابق.
  5. المصدر السابق.
  6. La grande mosquée de Paris appelle les musulmans à voter “massivement” Macron
  7. Acteurs internationaux et islam de France
  8. المصدر السابق.
  9. Attentat de Conflans: L’imam Hassen Chalghoumi est l’invité du Grand Live
  10. “إمام اليهود” في زيارة إلى إسرائيل
  11. Un enjeu majeur, le rôle et la formation des imams en France
  12.  المصدر السابق.
  13.  المصدر السابق.
  14. Imams « détachés » : pourquoi la France veut en finir avec ce système
  15. Emmanuel Macron discute de la création d’un « conseil national des imams » avec le CFCM
  16. Islam de France : toujours divisés, les représentants du culte musulman annoncent la création de deux conseils des imams distincts
  17. «Charte» des imams: un programme très politique dicté de l’Intérieur
  18. المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية “يحتضر” ويتجه نحو الزوال على وقع انقسامات داخلية حادة
  19. ERIC ZEMMOUR, JUSQU’OÙ PEUT-IL ALLER ? – INTERVIEW COMPLÈTE
  20. Avec la prochaine loi Macron, comment financer les mosquées en France?
  21. المصدر السابق.
  22. المصدر السابق.
المصدر: الجزيرة
آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M