دة.صفية الودغيري تكتب: الحق يظهر من معنى ومن كلم

12 ديسمبر 2021 01:44
تعليقاتي

هوية بريس – صفية الودغيري

الكلمة الصّادقة هي التي جمعت حروفها في حالتي السِّلم والحرب، وولدت من مخاضٍ عسير، لتواجه وتقاوم وتخالط واقع الحياة ومعارك الحياة، وتعبِّر بجرأة ونزاهة، وصدق وأمانة عمّا يجري ويحدث وينزل من الوقائع والنَّوازل والأحداث..
والكلمة الصّادقة هي التي تُصاغ بقوّة، وتُضَخّ من حبرٍ ودم، وتصدر عن قلبٍ وعقل، وتتحرَّك لحركة الحواسّ والأعضاء، وتجري في العروق والشّرايين والعصب، وتسكن الضّلوع والحنايا، وتفتِّت العظم والصّخر، وتطرق النّبض والصّدر، وتتشاكل لتشاكُل الرّوح مع الجسد، وتعكس تقلُّبات الكاتب في كلّ حالاته وأحواله، في قوَّته وضعفه، ويقينه وشكِّه، وفرحه وحزنه، وانتصاره وهزيمته، وحربه وسلمه، ورفقه وشدّته، وهدوئه وثورته..
والكلمة الصّادقة هي التّاريخ الصادق، وهي شاهِدٌ منصِفٌ عادِل، تؤرِّخ الحقيقة الكاملة بفصولها الجليّة الواضحة والسّاطعةً كسطوع الشّمس، تتجرَّد من جميع الأغراض الدّنيويّة، وترتبط بأسمى الغايات والأهداف، في تحقيق رابطٍ متين الوشائج، جامعٍ بين أدب الدُّنيا والدّين، باعتبارها المصدر لنقل الأخبار الصحيحة، وتبليغ العلم والمعرفة، وإظهار الحقيقة لا لبسها وإخفائها، أو تزويرها ونشر الأكاذيب والأراجيف..
والدُّنيا منذ كانت وستظلّ تحفل بأصحاب الكلمة الصّادقة من أعلام الكُتّاب والمؤرِّخين، ومن يضعون لكلمتهم ميزانًا عادِلاُ خالدًا بخُلود الحقيقة التي يثبتونها.
وكما أنّ في الدُّنيا كرامًا نبلاء، فيها أيضًا الكُسالى والبُخَلاء، ممّن لا يضنّون بالمال فحسب، بل حتى بالمعلومات ونشر الأخبار، وتبليغ العلم والمعرفة، ونفع النّاس وإفادتهم.
وقديما تحدّث عن الفريقين المؤرّخ والأديب والأستاذ محمد داود بوصف بليغ، وعقل خبير رشيد، عالم فقيهٍ بأحوال الدّنيا وأهلها، وأصناف الأقلام وطبائع حملتها، وذلك ضمن المقدمة التي وضعها لكتابه: “تاريخ تطوان المطول”، وطرح سؤالا: “كيف ينبغي أن يُكتب التّاريخ؟”، وأجاب عنه فقال:
“فهذا مؤرِّخٌ حرٌّ نزيهٌ لا يخشى شيئًا ولا يطمع في شيء، يقول الحقَّ ويسير في طريقه، يرى أنّ من أحسن بجب أن يعلم أنَّ إحسانه لم يَضِع، ومن أساء يعرف أنَّ وراءه أَعْيُنًا ساهِرَةً تُحْصي عليه أعماله ومواقفه، وأقلامًا حادَّةً تسجِّل ذلك وتخلِّده في بطون التّاريخ، ليقرأها الأولاد والأحفاد، وتسير بها الرُّكْبان في مختلف الأقطار.
وذاك كاتبٌ مدّاحٌ أو هَجّاءٌ يخدم مصالح شخصِيَّة له أو غيره، لا يُبالي بالحقيقة ولا يهمُّه إنصاف، وإنّما يمدح أو بذُمُّ بالحقِّ والباطل، وبالواقع وبالمُخْتلق، وكم من كاتبٍ أو شاعِرٍ أو مؤرِّخٍ باع ضميره وقلمه وخان الأمانة، وضلَّ في نفسه وأضلَّ معه النّاس لأجل دراهم معدودَة قبضَها، أو وظيفةٍ زائلةٍ تقلَّدها، أو لرغبةٍ أو رهبةٍ تزول بزوال أسبابها، وتنتهي عوارضها طال الزَّمن أم قصر.
والكُتّاب والمؤرِّخون الذين من هذا القَبيل وذاك قد وُجِدوا في العهد القديم، وهم موجودون الآن وسيبقون في الوجود، ما دام الإنسان وأخلاق الإنسان. فالشَّرف، والنَّزاهة، وعلوّ الهِمَّة، والعلم الغزير، والعقل الرّاجح، والاتِّزان المعقول، ونبذ الخوف والطَّمع، هذه صفاتٌ لا تسمح لصاحبها بغير الحقّ والعدل والإنصاف.
أما الأمل والطَّمع، والخوف والهَلَع، والطُّغيان والجَبروت، وصفاقَة الوجه وخراب الذِّمّة، فإنّها أوصافٌ تدعو بعض النّاس لقَلْب الحقائق، واخْتِلاق الحَوادِث والإِغْضاء عن الزَّلاّت، ومُداراة الذين يخاف منهم أو يخشى أنصارهم، ثم إنكار حَسنات الأضداد وفضائل المعارضين، فهذا فُلانٌ بيده السُّلطة أو له جاه، يخشى من غضبه أو أعراضه إذا قيل كذا، أو كتب كذا، وذاك فُلانٌ عدوُّ فُلان، أو كان عدوًّا لآبائه أو أجداده، ويسوءه أن يسمع كلمة حقٍّ، أو أنصاف في خصمه أو خصم أهله أو مواطنيه، وهذا صديقنا فُلانٌ لا يناسب أن نقول في سلفه كذا، أو هؤلاء قومنا لا ينبغي أن نذكر شيئًا من نقائصهم، أو هذه بلادنا لا يليق أن نصفها هي أو أهلها بكذا ليلا يستغِلَّ ذلك خُصومنا إلخ. هكذا تضيع الحقائق وتَنْقلِب الأمور في كثيرٍ من الأحوال ومن كثيرٍ من النّاس..”.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M