سلسلة ذ. الحسن شهبار.. المسألة الرابعة: منهج السلفية الجهادية في استنباط الأحكام

18 يوليو 2018 23:20
عقوبة الإعدام والحق في الحياة.. على هامش جريمة قتل الطفلة إخلاص

هوية بريس – ذ. الحسن شهبار

المسألة الرابعة: منهج السلفية الجهادية في استنباط الأحكام

قبل عشرين سنة تقريبا، كنت استمعت لخطبة جمعة مسجلة في شريط سمعي لخطيب مغربي مغمور، لم أكن أعرف حينها اسمه ولا أين يخطب، وكان موضوع خطبته في مسألة وجوب توحيد الصيام والفطر؛ فأحدث ذلك خللا كبيرا في ذهني، واضطرابا دام سنتين متتاليتين.. ولو كان هذا الخطيب فقيها بما يقول لما أحدث في عقلي هذا الاضطراب الكبير، ولناقش المسألة نقاشا علميا على طريقة الفقهاء، ولذكر مذاهبهم فيها، ثم ناقش أدلة كل مذهب، ولرجح في الأخير الرأي الذي ظهرت له قوة أدلته.. ولكن هذا الخطيب لم يفعل شيئا من ذلك بتاتا، وإنما جعل خطبته في بيان أن المغاربة يصومون يوم العيد فيعصون أبا القاسم صلى الله عليه وسلم، وأنهم يفطرون اليوم الأول من رمضان عمدا؛ فيجب عليهم القضاء والكفارة، وهو في كل ذلك يحتج بالآيات والأحاديث العامة التي تحرم صيام يوم العيد، وتوجب الكفارة على من تعمد انتهاك حرمة شهر الصيام!!

ولأنني حينها لم أكن قرأت في الفقه إلا كتاب (منهاج المسلم)، وكان وقر في قلبي تعظيم الدليل من الكتاب والسنة والتسليم المطلق له؛ فقد خُيل إلي من شدة جهلي حينئذ، أنني حصلت على كنز ثمين؛ فغدوت أناقش كل من لقيته في طريقي أو جمعني به مجمع بمضمون تلك الخطبة التي حفظتها من كثرة سماعي لها.. وعندما كنت أناقش والدي وبعض أصدقائه كانوا يردون علي بجواب واحد ووحيد، وما فقهت جوابهم هذا إلا بعد مدة طويلة، عندما أراد الله بي خيرا، ويسر لي قراءة بعض كتب المذاهب الفقهية.. كانوا يقولون لي في جوابهم: “هؤلاء العلماء الذين يعدون بالآلاف في المغرب كلهم لم ينتبهوا لهذه الكوارث لقرون، حتى بعثت أنت اليوم لكشفها!!”.. ولم يكن جوابهم هذا ليصدني عن رأيي؛ بل ما كان يزيدني إلا ثباتا عليه، فإن العبرة عندي ليست بكثرة العلماء ولا بقلتهم، وإنما العبرة بالدليل، وأنا أدور مع الدليل حيث دار.. والحق لا يُعرف بالرجال، وإنما اعرف الحق تعرف أهله، ولا يهم إن كان هذا الحق الذي عرفته ليس له أهل، فأنت الحق، وأنت أهله، وأنت الأمة ولو كنت وحدك!!

إن الإشكال الكبير الذي لم أجد من ينبهني إليه، أو من يصفعني على وجهي لأنتبه إليه هو: أين هو الدليل على أن المغاربة يُفطرون عمدا في اليوم الأول من رمضان، ويصومون يوم العيد؟ إن مسألة تعظيم الدليل والانقياد له مسألة عظيمة جدا، ولكنها سلاح ذو حدين إذا أسيء فهمها وتنزيلها.. فهل أنا مؤهل لفهم الدليل وتنزيله على الواقعة؟ وهل الخطيب الذي استمعت له -وكان يلحن كثيرا- مؤهل لذلك؟ لقد سألت مرة أستاذي الدكتور محمد أبياط حفظه الله عن هذا الأمر؛ فذكر لي أنه سأل شيخه الأستاذ الطاهري رحمه الله يوما هذا السؤال: لماذا علماء المشرق عندما يُسألون عن مسألة يذكرون الجواب عنها مصحوبا بالدليل من القرآن أو السنة، وعلماء المغرب عندما يُسألون يجيبون بقول مالك أو سحنون أو غيرهما من فقهاء المذهب؟ فكان جوابه رحمه الله: “ربما علماء المشرق قد بلغوا رتبة الاجتهاد؛ فأصبحوا يأخذون الأحكام مباشرة من الكتاب والسنة، وأما علماء المغرب فلم يصلوا لهذه المرتبة، ولذلك إذا سئلوا يُجيبون بما فهمه علماء مذهبهم من الكتاب والسنة”!

يا له من جواب تقشعر منه الأبدان، ويفيض بالتواضع والأدب مع العلماء، ويبرز لنا المنهج السليم للتعامل مع الدليل.. إن كثيرا من الناس يخلطون بين الدليل وبين فهم الدليل، وإنه لمن المعلوم من الدين بالضرورة أنه لا يجوز لأحد أن يُقدم رأيا لأحد على كلام الله ورسوله؛ بل من اعتقد جواز ذلك فقد خلع عنه رداء الإسلام، ونصوص الأئمة الأعلام معلومة في هذا الباب.. ولكن الإشكال الذي يحتاج إلى جواب هنا هو: ما الفرق بين الدليل وبين فهم الدليل؟ ومن يحق له أن يفهم الدليل وينزله على الواقعة؟ عندما تسأل شخصا سؤالا فقهيا فيجيبك جوابا ما، ويعضد جوابه بآية أو حديث؛ فإنه يجيبك بما فهمه هو من الآية أو الحديث.. فالدليل ليس هو الآية ولا الحديث، وإنما ما فهمه هذا الشخص من هذه الآية أو ذلك الحديث.. ولذلك نجد الفقهاء يختلفون في المسألة الواحدة ويحتجون فيها بنفس الآية أو الحديث، وكل يفهم منهما خلاف ما فهمه الآخرون.. وعندما تسأل شخصا آخر نفس السؤال؛ فيجيبك بقول مالك أو سحنون أو خليل، فليس معنى هذا أنه لم يذكر لك دليلا، أو أنه قدم قول مالك وسحنون وخليل على قول الله ورسوله.. وإنما أجابك بما فهمه مالك أو سحنون من الآية المتعلقة بمسألتك تلك.. ولك أن تحكم بعد هذا: أيهما أقرب للصواب؟ الذي أجابك بفهمه هو للآية والحديث، أم الذي أجابك بفهوم العلماء الكبار مثل مالك؟ ولا يغرنك ما يُشوش به هنا بعضهم من أن هؤلاء العلماء يُقدمون كلام الرجال على كلام الله ورسوله.. اللهم إذا كنت من فصيلة الذين يقولون عن هؤلاء الجبال: هم رجال ونحن رجال!

إن جواب الفقيه الطاهري رحمه الله الذي سبق هو نفس الجواب الذي كان يذكره لي والدي وأصحابه.. ومعناه أن الآية والحديث يحتملان النسخ والتقييد والتخصيص ووجود المعرض لهما.. فهل أنت مؤهل لجمع هذه الأدلة والترجيح بينها؟

إنني أستغفر الله كلما تذكرت كيف كنت أسمح لنفسي بالتطاول على الأدلة والترجيح بينها وأنا لم أقرأ سطرا واحدا في علم أصول الفقه، ولا ختمت متنا صغيرا في الفقه.. ورأيت بأم عيني شبابا يستدلون ويُرجحون وهم لا يستطيعون قراءة الحديث قراءة سليمة من اللحن، وشجعهم على ذلك تلك الفوضى الخلاقة التي تنتشر داخل التيارات السلفية بكل أطيافها، ومنها التيار السلفي الجهادي.

إن أول ما نتعلمه داخل التيار السلفي هو نبذ التقليد ووجوب اتباع الدليل، ونحفظ قول الأئمة الأعلام “إذا وجدت رأيي يخالف الحديث فاضرب برأيي عُرْضَ الحائط“، وقولهم “لا تقلد أبا حنيفة ولا مالكا ولا الشافعي ولا أحمد، وخذ من حيث أخذوا“.. ومثل هذه العبارات التي صدرت عن هؤلاء الأئمة الأعلام في ذم التقليد والمقلدين، وكنا نمثل لذلك بأن الشافعي خالف شيخه مالكا، وأحمد خالف شيخه الشافعي، والصاحبين خالفا شيخهما أبا حنيفة، وابن عبد البر وابن العربي خالفا مذهب المالكية، وهكذا.. وإن السؤال الذي كان يجب علينا طرحه هو: هل كلام هؤلاء الأئمة موجه لعموم الناس وعوامهم، أم أنه موجه للعلماء الذين بلغوا منزلة الاجتهاد؟ هل يحق لي أنا أن أضرب قول مالك عُرض الحائط بحجة أنه مخالف للحديث الصحيح؟ وما أدراني أنه مخالف للحديث الصحيح وأنا لست من أهل الاجتهاد والنظر في الأدلة لاستنباط الأحكام؟ فأن يُخالف الشافعيُ مالكا، ويُخالف أحمد الشافعي، ويُخالف الصاحبان شيخهما أبا حنيفة، ويُخالف ابن عبد البر وابن العربي المالكيان وأمثالهما مالكا؛ فهذا مقبول ومعقول ومطلوب إذا تبين لهؤلاء خطأ من خالفوهم في مسألة ما، ولكن أنْ أخالفهم أنا وأنت وعموم الناس بحجة مخالفة كلامهم للأحاديث الصحيحة فهذا هو الضلال بعينه.. صحيح أنه لا يجوز لعالم أن يقلد عالما، والصحيح أيضا أنه يجب على العامي تقليد العلماء لقوله تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)..

وقد بلغ بنا الجهل أن زعمنا أن أئمة المذاهب الفقهية برآء من التقليد والمقلدين مطلقا؛ بل كنا نزعم أن تقليد المذاهب الفقهية مخالف للسنة، لأن هؤلاء الأئمة غير معصومين، فكيف نقلدهم! وهذا القول الشاذ يلزم منه القول بوجوب الاجتهاد على الجميع، وأنه فرض عين يأثم كل شخص تَرَكه.

إن القول بوجوب اتباع الدليل دون تأصيل هو الذي أدى إلى حدوث كثير من البدع والسلوكات الشاذة، وبناء على هذا المنهج الأعرج فلن يعدم أهل البدع وجود دليل يستدلون به على بدعتهم، وهؤلاء الخوارجُ والشيعةُ والمرجئةُ وغيرهم يستدلون أيضا بنصوص من القرآن والسنة.. وإني والله لأعجب لما كنا عليه أشد العجب، ألسنا كنا نقول إن السلفية تعني اتباع الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح.. والسلف الصالح هم الصحابة والتابعون وأئمة المذاهب وعلماؤهم! ونصرح دائما أن الاكتفاء بالقرآن والسنة وحده لا يكفي، لأن نصوصهما حمالة أوجه من المعاني، ولا يُضبط المنهج الصحيح إلا بالتقيد بما فهمه السلف من الصحابة والتابعين والأئمة الأعلام من هذه النصوص حتى لا نزيغ كما زاغت الفرق البدعية التي استغنت بالكتاب والسنة عن فهم السلف.. فلماذا عندما نأتي إلى المسائل الفقهية نزعم أن نصوص الكتاب والسنة تكفي وحدها، ولا حاجة لنا لهذه المذاهب الفقهية؟

وانظروا اليوم إلى هؤلاء الذين يردون أقوال الأئمة بحجة مخالفتها لنصوص الكتاب والسنة.. هل تتوفر فيهم شروط الاجتهاد؟ إنني أعرفهم، وكنت واحدا منهم، وعاشرتهم، ورأيت كيف كنا نتطاول على أئمة المذاهب الفقهية ونرد أقوالهم المخالفة للكتاب والسنة بزعمنا، ونحن لا نميز بين الكوع والبوع، وقد ساعدنا على ذلك انتشار كتب الفقه الميسر في ضوء الكتاب والسنة التي تذكر الأحكام الفقهية مقرونة بأدلتها الشرعية من الكتاب الكريم وصحيح السنة النبوية، والتي لا تلتزم بأصول مذهب معين من المذاهب الفقهية المتبعة، وإنما الدليل وفق ما يقتضيه النظر الصحيح والرأي الراجح، وشعارنا في ذلك قول القائل:

العلم قال الله قال رسولـــــــــــــــــــــــــــــــــه……قال الصحابة ليس خلف فيــــه

ما العلم نصبك الخلاف سفاهة…….بين الرسول وبين رأي سفيــه

كلا ولا نصب الخلاف جهالة…….بين النصوص وبين رأي فقيه

وهكذا أصبحنا فقهاء بين عشية وضحاها، نستنبط الأحكام مباشرة من الكتاب والسنة، ونقابل بين النصوص ونرجح، دون حاجة إلى أصول فقه، ولا قواعد عربية، ولا إلى علوم آلة، وكان أعلمنا وأفضلنا هو الذي قرأ كتاب (معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة) للجيزاني؛ فنتج عن ذلك جهل كبير، وسطحية ساذجة، وظاهرية عرجاء، وأصبحنا لا نقرأ من الكتب إلا ما كُتب على غلافه: تأليف أبو فلان السلفي الأثري! ففررنا من تقليد أئمة المذاهب الفقهية الأعلام، وسقطنا في تقليد من هم دونهم علما وفهما، وعقلا وورعا.. وسقطنا بسبب ذلك في شذوذات فقهية وسلوكية، فقد مكث بعضنا يجمع الصلاة ويقصرها طيلة سنوات سجنه التي جاوزت العشر سنين، وكان بعضنا يجمع ويقصر الصلاة بمجرد ابتعاده عن منزله مسيرة ساعة واحدة بحجة أن مساكن قريته قد غابت عن بصره؛ فهو مسافر!!

وكانت أفظع مصيبة وقعنا فيها بسبب هذا الفقه الأعوج هو إلغاء فقه الخلاف تماما من معاجمنا، وأصبحنا نعتقد أن كل مخالف لنا هو مخالف للدليل وللرأي الراجح، وهو أقرب إلى الضلال والبدعة إن لم يكن ضالا ومبتدعا.. حتى أنني كنت إذا رأيت شخصا يصلي بجانبي ولم يُشر بسبابته ولم يُحركها أثناء التشهد كان يسقط من عيني.. ودخلت مرة مسجد الكلية لأصلي صلاة العصر فوجدت أحد أساتذتي يؤم الطلبة فتركت الصلاة خلفه لأنه يلبس سروالا ضيقا، وصلاته باطلة!

وكذلك من الطوام التي أُورثناها بسبب هذا المنهج الأعرج أننا أصبحنا لا نقيم للعلماء وزنا، وعلى رأسهم أئمة المذاهب الفقهية المتبعة، ولا أخفيكم أنه أتى علينا حين من الدهر كنا نرى فيه أنفسنا أقرب للسنة من مالك والشافعي، وإن تواضعنا قليلا فنحن في منزلة مثل منزلتهم! ويا ويل من سولت له نفسه أن يستشهد بقول ابن عاشر أو خليل! وأذكر مرة أنني قلت لصديق لي سألني عن حكم صلاة الوتر، أن الإمام أحمد قال: من ترك الوتر فهو رجل سوء، لا ينبغي أن تقبل شهادته.. فرد علي ساخرا: (أشْمن إمام أحمد.. قل لي أشْ قال الله وأشْ قال رسول الله!!).

إن دعوى وجوب اتباع الدليل والأخذ مباشرة من الكتاب والسنة دون التزام بأصول مذهب معين من المذاهب الفقهية المتبعة دعوى فضفاضة ومطاطة، لم يقل بها أحد من العلماء المعتبرين قديما ولا حديثا، وإنما هي من بدع السلفية المعاصرة، وإنك لتجد كل علماء الأمة ينسبون أنفسهم لمذهب من المذاهب الفقهية المتبوعة بمن فيهم شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، ولا يستنكفون من ذلك أبدا، إلا الذين صنعوا لأنفسهم مذهبا فقهيا خامسا بأصول غير منضبطة وفروع شاذة.. ويا ليتهم فعلوا فعلتهم هذه وسكتوا؛ بل أورثهم ذلك صفات ذميمة، كادعاء امتلاك الحق المطلق، وأنهم الفرقة الناجية التي لا ينجو معها إلا من كان على مثل ما هي عليه من الجهل والتعالم والشذوذ، وكالتطاول على أئمة المذاهب الفقهية، والتميز عن عموم الأمة في ثوب من الكبر والعجب بالنفس.. وقد صرح كثير من رؤوسهم أنه يجب على المتمذهبين أن يتوبوا إلى الله من باطلهم! وأنهم ليسوا من أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم يكرهون سنته إذا خالفت أقوال من يقلدونهم! بل بلغت الوقاحة ببعضهم إلى القول بأن المتمذهبين يدخلون في عموم قول الله تعالى: (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يُحسنون صنعا)!! وأنهم يدخلون في عموم قوله تعالى: (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا)!! وهذا الهراء كله من بركات المنهج السلفي المعاصر في الاستنباط المباشر.. ولو أننا قرأنا كتابا واحدا في فروع الفقه لإمام من أئمة المذاهب لما أصدرنا مثل هذه الأحكام الثقيلة على المخالف.. واسمع معي لبعض أقوال الأئمة العلماء.. يقول الإمام ابن الصلاح الشافعي رحمه الله: “إنه يتعين تقليد الأئمة الأربعة دون غيرهم، لأن مذاهب الأربعة قد انتشرت، وعلم تقييد مطلقها وتخصيص عامها، وشروطها وفروعها؛ فإذا أطلقوا حكما في موضع وجد مكملا في موضع آخر، بخلاف غيرهم فإنه تنقل عنه الفتاوى مجردة، فلعل لها مكملا أو مقيدا أو مخصصا لو انضبط كلام قائله لظهر، فيصير في تقليده على غير ثقة، بخلاف هؤلاء الأربعة“.

وقال إمام الحرمين رحمه الله: “أجمع المحققون على أن العوام ليس لهم أن يتعلقوا بمذاهب أعيان الصحابة رضي الله عنهم؛ بل عليهم أن يتبعوا مذهبا من مذاهب الأئمة الأربعة الذين سبروا فنظروا، وبوبوا الأبواب، وذكروا أوضاع المسائل، لأنهم أوضحوا طرق النظر، وهذبوا المسائل وبينوها وجمعوها“.. (منار أصول الفتوى وقواعد الإفتاء بالأقوى، للفقيه المالكي إبراهيم اللقاني، ص:205-204).

وقد نقل ابن القيم رحمه الله في كتابه الماتع (إعلام الموقعين) عن حذيفة أنه قال: “إنما يفتي الناس أحد ثلاثة: من يعلم ما نسخ من القرآن، أو أمير لا يجد بدا، أو أحمق متكلف. قال: فربما قال ابن سيرين: فلست بواحد من هذين، ولا أحب أن أكون الثالث“…

فهذا ابن سيرين، وما أدراك ما ابن سيرين.. يصرح بأنه ليس من العلماء المجتهدين، ولا يرضى لنفسه أن يكون أحمق متكلفا.. وأما نحن فقد رضينا لأنفسنا ذلك، وأبدعنا فيه أيما إبداع!

وبعد سنتين من سماعي لتلك الخطبة قدر الله لي أن أستمع لشريط آخر مسجل للشيخ أبي إسحاق الحويني حفظه الله تعالى، ذكر فيه مسألة اختلاف المطالع ومذاهب العلماء فيها وأدلتهم، ورجح القول بوجوب توحيد المطالع، وأنه إذا رؤي الهلال في أي بلد من البلدان الإسلامية يجب على كل البلاد الأخرى ما يجب على ذلك البلد من صوم أو فطر.. ولكنه قال كلاما حكيما بعد ذلك أزال ما كان وقع في صدري من ضيق بسبب تلك الخطبة المشؤومة؛ فقد ذكر أن العلماء الذين ذهبوا إلى القول بوجوب توحيد الصيام والفطر كان مما قصدوا إليه توحيد الأمة الإسلامية في هذا الباب، وحيث إن الأمة الإسلامية اليوم متفرقة ومتشرذمة، ولا يملك العلماء أمر توحيدها؛ فإن الحكمة تقتضي أن نتوحد داخل البلد الواحد، ولا بأس بالعمل بالرأي المرجوح تحقيقا لمقصد عظيم، وهو توحيد البلد الواحد، وتوحيد الأسرة الواحدة.. ذلك أن العمل بالرأي الراجح لا يحقق المقصد العام من توحيد الأمة الإسلامية، ويؤدي إلى زرع الفرقة والشقاق بين أفراد الدولة الواحدة؛ بل وبين أفراد الأسرة الواحدة..

فانظر إلى الفرق الشاسع بين كلام العلماء وبين كلام الجهلاء.. إن هذا الذي ذكره الشيخ الحويني من زرع للفرقة والشقاق بين أفراد المجتمع الواحد، وبين أفراد الأسرة الواحدة كان واقعا رأيته بعيني وعشته بنفسي، وعانيت منه كثيرا، ويشهد الله أنني ما كنت أفعل ذلك مكابرة ولا عنادا، وإنما أفعله تدينا وتقربا إلى الله تعالى بما كنت أعتقد أنه حق مطلق يأثم كل من خالفه.. ولذلك فأنا اليوم بحمد الله تعالى من أشد الناس التماسا للأعذار عندما أجد من يفعل مثلما كنت أفعل، ولا تعجبوا من وقوع مثل هذا؛ فالساحة أُخليت من العلماء الربانيين الصادقين الذين يثق الناس بهم، والمنابر أُنزل من فوقها فرسانها الحقيقيون، والمساجد أقفرت من وجود الكراسي العلمية، وحل محلها نُتف من دروس الوعظ والإرشاد يؤديها وعاظ أغلبهم لا يميز بين يديه اليمنى عن اليسرى، ولا يعرف الضمة من الكسرة.. فمن يُرشد الشباب الحيارى، وينقذ الغرقى في بحار الشبهات والشهوات؟

إنني لا زلت أذكر يوم ذلك العيد، وقد اغتسلنا ولبسنا الجديد، وتجمعنا في بيت أحد الأصدقاء، وكنا مجموعة من الشباب لا نتجاوز العشرين؛ فقام منا خطيب صلى بنا صلاة العيد وخطب بعدها خطبة قصيرة ذكرنا فيها بالصبر والقبض على ديننا كقابض على جمر، وهنأنا بالعيد وباختيار الله لنا لنكون من المهتدين إلى معرفة الحق، ثم انصرفنا على أشق إحساس وآلمه في يوم عيدنا؛ إذ سرعان ما ذهب عنا ما كنا نجده من فرح وسرور، وحل محله الحزن والألم، وخلا الجو من المتعة، وأضحى مثيرا للضجر والسأم.. فكيف نحتفل بالعيد والناس لا زالوا في صوم؟ وتخيل حالك وأنت وحدك في البيت طاعم ومن حولك صائمون.. تُخفي عنهم حالك حتى لا تُعرض نفسك للسخرية أو الاحتقار.. وعندما يُصبح الناس في يوم عيدهم فرحين مستبشرين، ومكبرين ومهللين، وحامدين لله شاكرين، تُصبح أنت نائما من الشاخرين!

آخر اﻷخبار
2 تعليقان

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M