مشهدٌ لواجهة متحف الفنون الحديثة والمعاصرة بالرباط يلخّص كلَّ شيء

10 يناير 2020 18:48
مشهدٌ لواجهة متحف الفنون الحديثة والمعاصرة بالرباط يلخّص كلَّ شيء

هوية بريس – د.عبد العلي الودغيري

مررتُ بالصدفة صباح اليوم أمام المدخل الكبير لمتحف الفنون الحديثة والمعاصرة الذي تم افتتاحُه في قلب العاصمة الرباط منذ بضعة أسابيع. وأول ما لفتَ نظري هو الواجهةُ الزجاجية الكبيرة التي كُتب عليها اسمُ المُتحف الجميل كما يبدو من الخارج على الأقل:
ثلاثةُ أرباعِ الواجهة ملأها العنوانُ الكبيرُ الذي كُتِب على مسافة سطرين أحدهما أضخم من الآخر، بحروف فرنسية بارزة جدا، جدا. أما الرُّبُع الباقي الذي لم يعد يتَّسع لأكثر من سطرين صغيرين في أسفل اللوحة / الواجهة فقد وُزِّع بالتساوي على اللغتين الوطنيتين الرسميتين: سطرٌ صغير للعربية وسطرٌ مثلُه للأمازيغية.
طريقة كتابة عنوان هذا المتحف تلخّص القضيةَ كلَّها وتعكس بالضبط ذلك التصوّر الواضح الراسخ في عقلية الإدارة المغربية (الحديثة والمعاصرة)، عن كيفية توزيع الحِصَص والوظائف والأمكنة والفضاءات بين اللغات المتداولة في المغرب، وما ينبغي أن تناله كلُّ لغةٍ في بلادنا من الأنصبة والحُظوظ والامتيازات، وما هي لغة الأولويات والأسبقيات، واللغة التي لا ينالُها من كل ذلك سوى بعضِ الفُتات. اللوحةُ سهلةُ القراءة، واضحةُ التَّشكيل، لا تحتاج إلى دليل أو تأويل، لدرجة قد تجعلك تُصنّفها بين لوحات الفن التشكيلي المسمى (بالفن الساذَج) التي يمكن أن تقرأها بكل بساطة على النحو الآتي:
الفرنسية أولاً وثانيا وثالثا (ثلاثة أرباع المساحة)، والعربية والأمازيغية رابعاً (لكل منهما نصفُ الربع) وبهما يكتمل النصابُ. واكتمالُ النّصاب هنا مسألةٌ شكلية، تكميلية، تجمليية، ديكورية، فلكورية، أبازيرية، هامشية (في أسفل الهامش الذي فاضَ عن حاجة اللغة الأساسية).
هل رأيتم دولةً في العالَم تُهينُ لغتَها الوطنية والرسمية بهذا الشكل؟
هل رأيتُم دولةً في العالَم تكتب في دستورها شيئًا وتُطبِّق في الممارسة العملية ما يُناقضُه تمامًا؟
هل هنالك دولةٌ في العالَم تُعطي للغة أجنبية غير شرعية ولا دستورية ثلاثةَ أرباع الحصَّة في كل شيء، وتُعطي لغتها الوطنية نصفَ الربُع (ثُمُن الحصة) أي ما تبقَّى من الفُتات لا غيرَ؟
ما هذا الضَّحكُ على ذُقون العباد؟
هكذا يفهمون التعدُّد اللغوي، وهكذا يريدونه. التعدُّد معناه، كما تشرحُه اللوحةُ شرحًا سيميائيّا دالاً ـ وهي المعبّرة بحق عن الطريقة التي يؤولون بها نصَّ الدستور: أن تكون للغة غير الشرعية (اللغة الخليلة إن شئتُم) ثلاثةُ أَنصِبة، أو ثلاث مراتب، أو ثلاثة منازل، أو مقامات، أو ثلاث أفضليات، أو أفضلية مُضاعفةٌ ثلاثَ مراتٍ (لكم الاختيار)، وتلك قسمةُ القلب. جاء في الحديث: (اللهم هذا قَسْمي فيما أَملكُ، فلا تَلُمني فيما تَملكُ ولا أَملكُ). التعدُّد اللغوي في تأويلهم أن تكون اللغة الأجنبية هي صاحبةُ القلب وسيدة العقل والماسكة بزمام القيادة والريادة. أما العربية بكل لهجاتها والأمازيغية كذلك، فلها أن تتقاسم فيما بينها بقيةَ الترِكة، أي ما فَضُل وزاد عن الحاجة. فالعربية أصلاً لا يُحتاجُ إليها إلا لمن أراد أن يصلّي، أو يتلو القرآن لمن استطاع قراءتَه بلغته الأصلية على سبيل التبرُّك لا غير، أو سماعِ خطبة الجمعة في بعض المساجد ريثما يتمًّ إصدارُ الأمر بتدريج كلّ الخطب المِنبرية وتلهيجها.
لأي شيءٍ تصلح العربيةُ بعد ذلك؟ لا هي صالحةٌ للوظائف الرفيعة، ولا لغة الخبز النظيف، ولا حتى لكتابة لافِتة تدل على اسم مؤسسة رسمية ترعاها الدولة.
يا لَسخافة عقولنا التي تُصدّق أننا في دولة الحق وتطبيق الدستور واحترام القانون.

ملاحظة : هذه التدوينة نشرتها منذ ثلاث خمس سنوات بالضبط ، ورأيت أن أعيد نشرها اليوم فهي لم تفقد راهنيتها كما يقولون.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M