من ذكريات سجين مكافح في عهد الحماية الفرنسية البغيض بالمغرب أو أيام كولميما (ج2)

11 يناير 2020 16:59
من ذكريات سجين مكافح في عهد الحماية الفرنسية البغيض بالمغرب أو أيام كولميما (ج2)

هوية بريس – ذ.إدريس كرم

يعتبر كتاب “من ذكريات سجين مكافح في عهد الحماية الفرنسية البغيض في المغرب أو أيام كولميما” للعلامة المجاهد محمد إبراهيم الكتاني، الفائز بجائزة المغرب سنة 1972، من كتب أدبيات السجون، ويمتاز الكتاب بأنه ينفرد بتدوين أيام سجن الفقهاء والطلبة بعد المظاهرات المطالبة بحرية تنظيم الأحزاب سنة 1937 التي ردت عليها سلطات الحماية بقمع شديد لمن كان يسمى بالمهيجين الكبار، والتي أدت لاستشهاد الفقيه الشاعر محمد القري.

الجزء 2

في الحلقة السابقة تركنا سجناء كلميما في الشاحنات خارجين بهم من فاس، ونقدم في هذه الحلقة ما وقع لهم في الطريق للمعتقل المجهول لديهم.

 اللفيف الأجنبي

كان رئيس حرسنا في الشاحنة التي ركبت فيها (كابرال) عريف بلجيكي يرافقه سويسري وتشيكوسلفاكي وفرنسيون.

وبعدما سرنا مدة أراد أحدهم -وكان شابا فرنسيا وسيما أن يحدثنا- بعد أن علم أن فينا من يحسن الفرنسية، فمنعه رئيسه ثم لم يلبث أن سمح له على شريطة أن يستعمل الحذر التام حتى لا يراه أحد من راكبي الشاحنات الأخرى -أو الدراجات المرافقة- فيشي بهم لقائدهم الذي أبلغهم عند مجيئهم لأخذنا أمرا بالمنع من محادثتنا أو السماح لنا بالنوم أو الحديث مع بعضنا

وكان مما لفت نظر الشاب المذكور أننا صائمون، مع أنه كان يظن أننا ممن نبذوا التعاليم الدينية جانبا، وكم كان عجبه شديدا عندما طفقنا نبين له اتفاق مبادئ الإسلام مع العقل والمصلحة، ونذكر له الفرق بين الإسلام والنصرانية في ذلك وهو يزداد تعجبا واستغرابا.

فجعل يسألنا عن شبهات كانت في ذهنه عن الإسلام: كتقديس القبور وعبادتها، ومسائل المرأة والحج، ونحو ذلك، فوجدنا بذهنه صورة من أبشع وأشنع ما يتصور عن الإسلام وعقائده وشرائعه وتاريخه وحياة نبيه صلى الله عليه وسلم وأحوال المسلمين.

وقد استغرق حديثنا معه طوال اليوم بأكمله والغد أيضا.

وكان مما أخبرنا به أن رؤساءهم بالغوا في تحذيرهم من الحديث معنا أو معاملتنا بأي نوع من أنواع الشفقة أو الرحمة إذ لا نلبث أن نعتدي عليهم ونهرب عند أصدقائنا من القبائل المتحفزة للثورة في سبيل إنقاذنا من أيديهم، فأبدى عجبه مما يراه من هدوئنا ووداعتنا.

ولم يكد يصل حديثنا إلى الكلام عن حركتنا السياسية ومطالبها وأهدافها حتى عبر عن موافقته على أحقيتها ووجوب تأييدها بدلا من مقاومتها، وإن يكن قد أصر على اعتقاد أباطيل عن حركتنا لا صلة بينها وبين الواقع بحال من الأحوال تأثرا منه بالدعاية الباطلة المغرضة التي أرادت بها إدارة الحماية تشويه سمعة حركتنا وتسميم جو الفكر العام الأوربي ضدنا.

ومع احتفاظه بتصديق ما صدقه من ذلك، فقد كان متحمسا في الدفاع عنا وانتقاد موقف الإدارة ضدنا، وخصوصا هذه المعاملة البالغة منتهى القساوة والشدة: من الحكم علينا بالسجن سنة وسنتين وتغريبنا إلى الصحارى القاحلة وتسليط الكوم المتوحشين الأنذال علينا.

وعند الزوال وقفت القافلة لتناول طعام الغداء، فسمحوا لنا بالنزول فرادى للبول بجانب السيارات باستعجال. من ذكريات سجين مكافح في عهد الحماية الفرنسية البغيض بالمغرب أو أيام كولميما (ج2)

وقبل مغيب الشمس وصلنا إلى مدلت، وبعد نزولنا من الشاحنات أعطي كل واحد منا حصيرة لينام عليها، ثم أدخلنا إلى بيت كبير قيل لي إنه سينما، وقد وجدنا به جنديين مغربيين يحرسانه من فرقة الرماة المغاربة، فعندما أبصرانا جعلت عيونهما تنهمر بالدمع الغزير، وقد شاهدتهما بعيني يبكيان، فلم يلبثا أن أخرجا وعوضا بجنود من اللفيف الأجنبي المرافق لنا من فاس.

وقد أفطرنا بعد تحقق الغروب بما كان معنا من طعام ثم تسحرنا وقت السحور، وعند طلوع فجر يوم الإثنين 3 رمضان 8 نونبر (1937) بمجرد فراغنا من أداء الفريضة فرادى أمرنا بالخروج -ونركب الشاحنات التي ستقلنا للريش على ضفاف واد زيز التي وصلناها في منتصف النهار- فوجدنا فيها فرقة من الكوم يحملون هراوى وهم مصطفون على جانبي الطريق التي ستقف بها الشاحنات، فكانت شاحنة القنيطريين هي أول من توقفت، وما كاد من بها ينزل حتى هجم عليهم الكوم يضربونهم ويسوقونهم نحو سجنهم مسرعين ليضعوا أغراضهم، ثم أمروهم بالعودة للطريق التي بها الشاحنات ليحملوا الفؤوس والمساحي والمطارق لتكسير الأحجار وإصلاح الطريق، وكان بين المعتقلين القنيطريين عددا من المضروبين برصاص الشرطة أثناء التظاهر يوم الأربعاء 27/10/1937 وكانت جروحهم بليغة، بحيث كانوا لا يستطيعون الوقوف فكان مرافقوهم يحملونهم على ظهورهم ورقابهم وهم ذاهبون للخدمة، وكان الكوم يضربونهم مع حامليهم.

سارت القافلة إلى خارج القرية تاركين القنيطريين مع معذبيهم، ثم وقفت قرب إدارة الشؤون الأهلية لتناول الغداء، ثم واصلنا السير لقصر السوق وعند وصولنا نزلنا من الشاحنات وأمرنا بالسير مثنى مثنى وسط عدد من الضباط الفرنسيين، وكان أحدهم يناول كلا منا قطعتين صوفيتين مهترئتين للواحد تنبعث منها رائحة كريهة ولا تكاد تلمس حتى تتناثر أجزاؤها وتنسل خيوطها.

حفلة الاستقبال

وبينما كنا نتقدم لتناول قطعتي الغطاء كان بقية الضباط يصفعون واحدا ويلكم واحدا آخرا ويرفسون ثالثا، ويضربون رابعا بعصا على رأسه أو قفاه، ويتعرضون بأرجلهم لخامس فيخر على وجهه وهم أثناء ذلك يسبون ويلعنون نحو كلميما.

ثم ساقونا جميعا إلى شاحنتين معدتين لنقل الأحجار والتراب فحشرنا فيها وأخذوا يضربوننا ضربا شديدا حتى نزدحم فيهما نحن الخمسة والثلاثين في كل واحدة مع أربعة امخازنية مسلحين، وركب ضابط مع السائق.

ثم اتجهت الشاحنتان نحو كلميما في طريق وارزازات، وعند الغروب أفطر حرسنا بتمر كانوا يحملونه معهم، واكتفى أحدهم بأخذ واحدة أو اثنتين ووزع علينا الباقي مُقسما بأحرج الأيمان علينا لنأخذه وكانت عيناه تنهمران بالدمع الحار الغزير محاولا إخفاء تأثره من غير أن يقدر.

وحوالي الساعة السابعة والنصف أي بعد العشاء وصلنا مركز كولميما التكنة التي خصصت لاعتقالنا فوجدنا الكوم في استقبالنا بهراوات مثل التي رأيناها في الريش، والضباط الفرنسيون يحملون سياطا محشوة أسلاكا وحديدا، وما إن توقفت الشاحنات حتى صاحوا فينا: انزل اضرب أقتل، واقتادونا تحت الضرب والركل في الوحل والظلام نحو مخزن للقمح أفرغ للتو وبقي فيه غبار التبن، حشرنا فيه وأغلق علينا الباب.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M