هل كانت صنعة التجريح اتفاقا ضد الأمة وحاملي منهجها الحضاري المعصوم؟

14 يناير 2021 22:08

هوية بريس – محمد بوقنطار

[email protected]

لربما كانت أثقل كلمة على مشاعر ومتمنيات وشماتة خصوم الحجاج بعد هلاكه، وربما فاق ثقلها عليهم سيفه الذي لطالما جرّده من غمد العفو،وسلّه من لطف الحلم على القريب قبل البعيد، وأعني بها تلك الكلمة التي نبست بها شفاه الرجل وهو يحتضر، يجود بنفسه تارة في بخل بها مخافة إقباله على الله بسجل حافل بالدماء والمظالم، وتارة أخرى في كرم واستسلام لما قد كان يخامر الرجل من حسن ظنه في الله وواسع رحمته وجميل حلمه، سيما وقد دارت المخالفات والبغي والاعتداء تحت طائلة طاعة ولي الأمر في المعروف وغيره، ثم مَن ذا مِن معشر الموحدين الذي  يقنط من روح الله ورحمته وقد جاءت البشارة منه سبحانه لعباده المسرفين على أنفسهم: “قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم”…

تلك هي كلمة الضراعة التي ألقاها لسان الحجّاج بن يوسف الثقفي على مسامع شهود الاحتضار،ونُقلت إلينا بصيغة التمريض على استحياء وضمور “اللهم اغفر لي فإنهم يقولون أنك لن تغفر لي” ما أكبرها من كلمة في مقام الرجاء وإحسان الظن بالله، قد أناخ المسرف مستشفعا بها مطايا رحله أمام أعظم باب وأرحم رب سبحانه وتعالى.

ولذلك كان من صنائع العجب والغرور والتألي على الله، أن يأتي الخطاب الدعوي والوعظي والإرشادي والنصحيحافلا بأدوات التحجير على واسع رحمة الله بعباده، ووسم المسلمين بصكوك الكبكبة في النار، بينما تشهد أصول هذه الدعوة وهذا الوعظ وذلك الإرشاد والنصح بما يجعل أو يساعد المسلم أن يمشي في مناكب الأرض على بيّنة وهُدى من الله،مطمئنا في وجل مشروع لا إفراط فيه ولا تفريط، ولا يأس فيه ولا غرور،ويسعى بقدر ما يخاف عذاب ربه يرجو رحمته، وبقدر ما يخشى وعيده يطمع في وعده، وهذه سيرة المحسن يزري على نفسه ويحسن الظن بربه، يسعه بيته ويبكي على خطيئته، وإن سلم له إيمانه يوم لقاء ربه فيا فوزه، كما قال الإمام الذهبي رحمه الله وهو يترجم لنفسهعلى مضض وفي تواضع مهيب: “وجمع تواليف ـ يُقال مفيدة ـ والجماعة يتفضلون ويثنون عليه، وهو أخبر بنفسه وبنقصه في العلم والعمل والله المستعان ولا قوة إلا به، وإذا سلم لي إيماني فيا فوزي”.

وما أكثر هذا جنسا ونوعا في سيّر السابقين من الأوّلين، ولذلك كان الاعتبار الأول بعد فضل الله ومنِّه في نجاح دعوة الإسلام وخروجها من قَدَرة الغربة الأولى، ثم دخول الناس في دين الله أفواجا، كان الاعتبار يعود إلى الأثر المباشر للقدوة العملية التي تحلّى بها ذلك الجيل الفريد من الصحابة من المهاجرين والأنصار رضي الله عن جميعهم آمين، حكمت سلوكهم مع الغير هذه الآلية “القدوة العملية الحسنة” في حالات السلم والحرب، وفي البيع والشراء، وفي الصدقات وإقراض الغير، بل في معاملتهم للحيوان صيدا وتربية وتذكية.

ولله ذرهم وأعظم به من مربي صلى الله عليه وسلم ربّاهم على سعة الصدر وقوة العزم، وصدق الإرادة في محبة الخير للناس، وكمال النصح في غير شماتة في ميت أو هالك من المخالفين، وهذا سيّدهم وسيدنا عليه الصلاة والسلام يدخل على غلامهاليهودي في وضع الغرغرة فيلقّنه شهادة الإسلام ويفرح والبِشر ظاهر على محيّاه صلى الله عليه وسلم لإنقاذه من النار قائلا عليه الصلاة والسلام :”الحمد لله الذي أنقذه من النار” كما جاء في رواية البخاري، و”الحمد لله الذي أنقذه بي من النار” كما جاء في رواية عن البيهقي.

وانظر إلى أبي حاتم يحكي كيف حَادَثَ الإمام أحمد فيمن شرب النبيذ من محدثي أهل الكوفة، وقد سمّى له عددا منهم، فقال له الإمام أحمد: هذه زلات لهم لا نسقط بزلاتهم عدالتهم…

ما أروعها من مواقف، وما أنقاها من فطر، وأصفاها من أفئدة منصفة متجردة، كم تشتاق إلى سيرتها اليوم الساحات والميادين الدعوية التي باتت في بعض فصائلها وقد تشظّى الصف تشكو من خلل سلوكي تضخم كمّاً، وتصاغر كيفاً، وقد جاء تغوّله وحصل تضخمه على حساب عوز وفقر شديد في التربية السلوكية النوعية، حتى صار الكثير ينسى أدب التآخي، فيتماهى في غير  حلم ولا صبر ولا تضحية مع جهل الجاهلين سالكا وحل العدوان ومتلبسا برجس الوقيعة في لحوم القدوات من أهل العلم والفضل والصلاح، مجافيا ضوابط الحكمة، ومتفلتا من أعنّةالوعظ بالحسنى، ومجادلا بغير التي هي أحسن، مستنبطا للظنون، وموثرامُفضلا للتهمة والإدانة على أصل البراءة، متهوِّرا في طرد التأول الحسن وسقط  الأعذار من محامل القبول، فلا يكاد الواحد من هذا الكمِّ قليلا كان أم كثيرا يرى الناس أو يصدر أحكاما على تصرفات الآخرين إلا من وراء منظار فاقع السواد، بل لا يكاد المسكين المُساكن ممن يمشي على الأرض هونا أن ينعم في ظل سطوته بغير اليأس والقنوط من روح الله…

وهذه الطينة ليست بدعا من الناس حادثا، وليست وليدة زماننا المتأخر بحيث ظهرت متلازمة مع ظهور الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي المتأخرين، وإنما هي فرع عن أصل واسمع في مقام التوكيد لابن القيم متحدثا حاكيا واصفا لحالتهم المرضية القديمة في مدارجه رحمه الله : “ومن الناس من طبعه طبع خنزير، يمر بالطيبات فلا يلوي عليها، فإذا قام الإنسان عن رجيعه قمَّه، وهكذا كثير من الناس يسمع منك ويرى المحاسن أضعاف أضعاف المساوئ فلا يحفظها ولا ينقلها ولا تناسبه، فإذا رأى سقطة أو كلمة عوراء وجد بغيتها وما يناسبها فجعلها فاكهته ونُقله” (مدارج السالكين 1/695ـ696).

وهذه الطينة من أهل الصياح والنياح اعتادت وتربت على أن تجرح عن غير متانة ديانة، وأن تفضح في غير أمانة علم، ولا صدق طويّة، إنّما هو التشهي والهوى المتدثر  بدعوى الغيرة عن حمى الدين والذود عن حياض السنة والحديث، ويا ليت شعري متى كانت الغيرة والذود بالفظاظة والغلظة ووضيع المقال ومتسفل الحال، ولا شك أن ثمة فرق بل فروق بين الأصل المتقدم والفرع المتكرر، ذلك أن هؤلاء المتأخرين رأسا وخشبة، متبوعا وتابعا، وهم يحملون لواء الجرح والتخوين والطعن في القدوات من العلماء والدعاة صار لهم اسم على مسمى وتكتل على صيغة لها رأس وقيادة يفزعون إليها ويسيرون خلفها يعبّون من كأس جرحها ويشربون من مستحلبها المر شرب الهيم، متوهمين غمطا وبطرا ركوبهم سفينة السُنة سفينة النجاة، ومن ثم من أشارت إليه بنان شيخهم أو شيوخهم فهو مجروح مصيره للطوفان والهلاك والإسقاط من مقصورة العلم والمعرفة ومنزلة التبليغ والبيان، بينما كانت السخائم الأولى من جنس من وصفهم الإمام بن القيم أعيانا متفردة وذواتا شتى لا رأس لهم ولا مرصوص خشبة، ولذلك تباينت النتائج واختلف التأثير، فبينما نجد أن ركز القوم اليوم أصاب الصف المتراص إصابات تشظى منها وافترق جراءها في صراع يكاد يذهب بريح الجماعة، سلمت جرّة القدماء لخفة الضرب يومها، أي زمن المتقدمين يوم كان المنتسبون إلى الإسلام يمشون ملتزمين شمائل نبي الإسلام سالكين مسلكه، وقد عُلِم بالتواتر المحمود أنه لم يكن بالفظ ولا الغليظ القلب الحاد الطبع صلى الله عليه وسلم، ولا اللّعان ولا الصلف المُبَادِئ بالخصومة…

ولذلك يعلم الربّانيون من أهل العلم والورع والخشية أن الذين ينهجون هذا الأسلوب من التجريح الجارح ليسوا من الدعوة في شيء وإن زعموا أو ادّعوا أو توهموا، ذلك أن الدعوة حكمة عقل لا إرهاب طبع، وسعة سماحة لا ضيق مؤاخذة، ورحمة سبيل لا شطط سبل، ودين هداية للنفوس لا وسيلة بغي وطغيان وامتياز كهنوتية، وإن كان هذا الوصف للإسلام ورسالته الحضارية عام في كل منتسب، فكيف بمن جعلوا لحوم العلماء والدعاة على مشرحة الغيبة والبهتان والتحامل والتطفيف اللئيم، غايتهم قطع العذر عن قدواتنا ولو لقليل خطإ ونادر اجتراء، وكذا إلغاء دورهم في تربية الأجيال وبناء سلوك المكلفين على هدي من تركة وموروث الموكول إلى جنابهم من الجناب الشريف لسيد الخلق عليه الصلاة والسلام وقد قال :” العلماء ورثة الأنبياء…” الحديث.

ولا جرم أن مواجهة هذا الزيغ الذي ألمّ بأصحابه، في محاولة جادة مخلصة بغيتها سلخهم عن هذا الإهاب النجس القذر، ليس بالأمر الهيّن ولا هو التماس من المرء خلع قميصه أو سلِّ جوربه من قدم رجليه أو أمره بحلّ شراك نعله، ولكنها معركة فكرية وعقدية وسلوكية لها ثمنها من الصبر والمصابرة والمعاناة، كما لها أملها ومناها المعقول في هز وكنس هذه المحدثة القميئة، ودفع صائلها وعدوانه على الفضلاء والأخيار من هذه الأمة الموصولة بالله.

وإن كان الحجّاج قد قال كلمة أوقفت العديد وحالت بين الكثير وبين اقتحام مقبوح كبيرة التألي على الله في معاملة خلقه بالفضل قبل العدل، فكذلك ومن باب الأولى فللعلماء والدعاة والمشايخ المُجرّحين ظلما وغمطا كلمات وكلمات من شأنها أن تكشف لنا هذه الطباع الجاهلة في غير حِلم، وأن تعزل هؤلاء الفئام وتتصدى للصوصيتهم لقلوب الشباب ورجحان رميهم في محاضن الفتنة التي هي أشد وأكبر من القتل، والأكيد الأكيد أن زبد هؤلاء سيذهب جفاء، فلن تغلب بإذن الله رذائل رميهم، ومناكر نبزهم ومُطففتهمهم أخلاق العلماء وقواعد سيرهم بين الناس بالحسنى والسيرة الحسنة.

آخر اﻷخبار
1 comments
  1. الدعوة حكمة عقل لا إرهاب طبع، وسعة سماحة لا ضيق مؤاخذة، ورحمة سبيل لا شطط سبل … لله درك

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M