د. البشير: توضيحات بخصوص الاعتراض على قصيدة د. العشماوي: «يا بحر»

08 سبتمبر 2015 15:38
توضيحات بخصوص الاعتراض على قصيدة الدكتور العشماوي: «يا بحر»

توضيحات بخصوص الاعتراض على قصيدة الدكتور العشماوي: «يا بحر»

هوية بريس – د. البشير عصام

الثلاثاء 08 شتنبر 2015

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله

أما بعد:

فقد وقع السؤال عن قصيدة الدكتور العشماوي -وفقه الله- في قضية غرق بعض اللاجئين السوريين -كان الله لهم- في البحر، وما تبع ذلك من تعليق بعض المشايخ بأن في بعض أبيات القصيدة شركا، لما فيها من الاستغاثة بغير الله تعالى.

وقد بنى المعترض حكمه على أن مخاطبة الجمادات، لا يخرج عن ثلاث صور:

• خطابها بما يتضمن الخبر عنها، كأن يقال للبحر “ما أوسعك بلغت الآفاق”، فهذا لا بأس به.

• مخاطبتها بطلب فعل ما خلق الله فيها من الأفعال كأن يقال للسحابة: (أمطري) وللشجرة: (أثمري)، فهذا لا بأس به أيضا.

• مخاطبتها بما ليس مما خلق الله فيها من الأفعال ولا قدرة لها عليه، فهذا شرك أكبر. ومنه ما ورد في القصيدة من مثل قول الشاعر مخاطبا البحر: ”رفقا بهم” أو ”ارحم أخاه وأما تشتكي وأبا”، إلخ.

وتحريري المسألة في أوجه:

الوجه الأول:

ثبت بالأدلة المتكاثرة أن الاستغاثة بغير الله شرك. وفي الباب تفصيلات تطلب من مؤلفات العقيدة.

ولا يشك مسلم في خطورة الشرك بالله، ولا يشك أيضا في خطورة مسائل الأسماء والأحكام (الإيمان والكفر) وما ينبني عليها في الواقع، وأن طرفي النقيض فيها، وهما: “التسرع” و”التميع” مذمومان!

الوجه الثاني:

نداء المخلوق في ذاته لا يبنى عليه إثبات الشرك ولا نفيه، وإنما ينظر هل اقترن بالنداء: طلب أم لا؟

والمعترِض على الشاعر قد قرر هذا المعنى في تفصيله السابق ذكره، فلا ينبغي أن يردّ عليه بثبوت النداء غير الطلبي (ومنه أسلوب الندبة) في بعض كلام السلف، كقول فاطمة رضي الله عنها: ”يا أبتاه! أجاب ربا دعاه!”، فالمعترض لا ينكر مثل هذا.

الوجه الثالث:

مربط الفرس في هذه المسألة: التفريق بين حقيقة الطلب وصورة الطلب.

وبيان ذلك أنه ليس كل صيغة طلب في اللغة، يقصد بها حقيقة الطلب. ألا ترى أن الأصوليين ذكروا لصيغة ”افعل” معاني كثيرة غير الطلب الجازم، عقدها السيوطي بقوله:

.. للوجوب تردُ = والندب والمباح أو تهدّد

والإذن والتأديب إنذار ومنّ = إرشاد انعام وتفويض ومنّ

والخبر التسوية التعجيبِ = وللدعا التعجيز والتكذيب

ولاحتقار واعتبار مشْوَره = إهانة والضدّ تكوينٍ ترهْ

إرادةِ امتثال التسخير = …

وراجع الأمثلة في كتب أصول الفقه، فإن نقلها هنا يطول.

وأكتفي بواحد، وهو ما ذكروه مثالا على معنى التمني، وهو قول امرئ القيس:

”ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي”.

فالمراد تمني انجلاء الليل وانكشافه، ولا يقول عارف بلسان العرب: أن الشاعر يطلب من الليل طلبا حقيقيا أن ينكشف عنه، وهو ينتظر من الليل أن يحقق له مطلوبه!!

وإذا رجعنا لقصيدة الدكتور العشماوي، فإنك لو سألت أي قارئ عربي اللسان: ما مقصود الشاعر وما المعنى الذي أراده؟ لأجابك:

مقصوده: التوجع لحال هؤلاء، لا حقيقة الطلب من البحر أن يرفق بهم!

ومما يدل على ذلك أنه لو كان طلبا لكان من باب طلب المحال الممتنع، فإن هؤلاء قد ماتوا، وقضي الأمر، فكيف يطلب من البحر الترفق بهم؟

فاللفظ وإن كان على صيغة ”افعل” المفيدة في الأصل لمعنى الطلب الجازم، لا يراد بها الطلب في هذا السياق.

الوجه الرابع:

فإن قال قائل: نحن نحكم على ظاهر اللفظ، لا على القصد القلبي للشاعر!

فالجواب:

لم يكن كلامي في الوجه السابق عن القصد القلبي أصلا، بل كان عن فهم المعنى الظاهر من اللفظ.

ولأجل ذلك، فإننا لا نحتاج -في تقرير هذا المعنى- إلى معرفة حال الشاعر. فلو فرضنا أنه كان ملحدا أو دهريا -وحاشاه حفظه الباري-، لجزمنا أنه لا يطلب من البحر شيئا طلبا حقيقيا.

ولذلك جزمنا بأن امرأ القيس -وهو جاهلي وثني- لا يطلب من الليل شيئا، دون حاجة منا إلى اطلاع على خبيئة قلبه. وإنما العبرة بسياق اللفظ لا غير!

الوجه الخامس:

قد يضاف إلى ما سبق أمر آخر، وهو التسوية بين الصورتين الثانية والثالثة من تفصيل المعترِض.

وبيان ذلك: أن السحابة مثلا سببٌ لنزول المطر، وإسناد الفعل أو ما في معناه إلى ما هو سبب له، معروف في لغة العرب، على سبيل المجاز العقلي الذي علاقته السببية، كقولهم: ”أهلك الدينارُ الناس”، والدينار لا يهلك أحدا حقيقة!

وهنالك علاقات أخرى غير السببية، منها الزمانية، كقوله تعالى: ”يوما يجعل الولدان شيبا”، واليومُ لا يشيب رأس أحد حقيقة!

وقد يقال: إن البحر سبب لنجاة هؤلاء الناس وعدم إهلاكهم. فيصح على سبيل المجاز العقلي أن يقال مثلا: ”أنجى البحرُ راكبَه”، مع أن المنجي حقا إنما هو الله تعالى.

فلا فرق حينئذ بين أن يُطلب الإمطار من السحابة، والإنجاء من البحر، ففي كليهما: ”مطالبة بما خلق الله فيها من الأفعال والسنن الكونية القائمة بها” على حد تعبير المعترِض!

وفي الصورتين: ليس للجماد قدرة على الفعل، وإنما ينسب الفعل إليه أو يطلب منه باعتبار كونه سببا.

وهذا برهان جدلي، المقصود به إثبات التناقض في إباحة الصورة الثانية مع منع الصورة الثالثة. والذي أقرره جواز الصورتين، لا لأجل إسناد الفعل إلى سببه من باب المجاز العقلي (فإن إطلاق ذلك يؤدي إلى فتح ذريعة الشرك في حال دعاء المقبورين مثلا)، وإنما لأن صيغة “افعل” لا تدل على حقيقة الطلب بدلالة السياق.

فالاعتماد على الوجه الثالث، في فهم المعنى وتنزيل الحكم.

الوجه السادس:

للشعراء والأدباء طرائق في التعبير، من لم يعرفها شدّد في ما لا وجه للتشديد فيه.

وما زلنا ندعو الطلبة إلى القراءة في كتب الأدب واللغة، فإن كثيرا من الخلل الواقع في فهم الوحيين، وفي تنزيل الأحكام الشرعية، راجع إلى قلة البضاعة اللغوية، أو العزوف عن القراءة في كتب الأدب.

والله الموفق.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M