مقالات في السياسة الشرعية وتطبيقاتها المعاصرة (ح3)

08 أغسطس 2013 01:57

حماد القباج

هوية بريس – الخميس 08 غشت 2013م

الحلقة 3: مدخل (تابع)

بين الدعوة والسياسة (وفقه مقولة: من السياسة ترك السياسة)

وقفنا في المقالتين السابقتين على مقصدين جوهريين للممارسة السياسية المعاصرة من منظور شرعي:

الأول: مدافعة من مارس السياسة لإقصاء الدعاة ومنعهم من حقهم في تأطير المجتمع، ومعارضة سلوك الإقصاء بالشطط في استعمال السلطة.

الثاني: خدمة المواطن بما يحقق له العدل والكرامة والتنمية.

وكلا المقصدين في إطار قاعدة: “تقليل الشر (الاستبداد/الفساد/الظلم..) وتكثير الخير (الشورى/الإصلاح/العدل ..)”.

ولا بد ونحن نتحدث عن العلاقة بين الدعوة والسياسة أن نوضح بأن السياسة بمنهجيتها المعاصرة لا يمكن أن تكون وسيلة إلى تحقيق الإصلاح الشرعي والتغيير الإيجابي بمفهومه الشامل؛ لأن بنيتها مؤسسة على قواعد وأصول لا تسمح بتحقيق الإصلاح المذكور، كما أنها تخضع لهيمنة ممنهجة من طرف من يعارض ذلك الإصلاح؛ فهؤلاء المهيمنون يتحكمون في سياسات الدول من خلال لوبيات ذات نفوذ إمبريالي واقتصادي، وفي مقدمتهم لوبيات الصهيونية العالمية التي أحكمت قبضتها على التدبير السياسي من خلال المال والإعلام والثقافة والقوة العسكرية ..

{وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم: 46].

وتبقى الدعوة إلى الله سبحانه على منهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ هي الطريق الأوحد نحو الإصلاح الشرعي والتغيير الإيجابي بمفهومه الشامل الذي يغير حال الأمة من السيئ إلى الحسن ومن الضعف إلى القوة ومن الذل إلى العز والتمكين:

قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]

وقال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55]

وقال عز من قائل: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104]

وعن ابن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم» (رواه أبو داود وصححه الألباني).

فالإيمان والعمل الصالح والرجوع إلى الدين وتغيير سلبيات النفس والفلاح؛ كل ذلك إنما يتحقق -على مستوى الأفراد والجماعات- بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى على منهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح:

قال سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108].

فهذا هو السبيل الجوهري نحو إصلاح حال الأمة وخروجها من قبضة الهيمنة المذكورة، ورجوعها إلى قيادة البشرية نحو الخير والاستقامة والعدل:

{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].

إلا أن القافلة الدعوية لا تستطيع أن تستمر في طريقها الصحيح، ولا أن تحقق أهدافها النبيلة؛ إذا لم يكن للقائمين عليها حضور قوي في مجالات التدافع كلها، ومنها: المجال السياسي ..

وكون هذا المجال غير صالح ليكون طريقا نحو الإصلاح الشرعي بمفهومه الشامل، لا يعني مشروعية هجره وتركه خاليا لأهل الفساد والاستبداد يصولون فيه ويجولون ويوظفونه للتمكين للفاسدين وإقصاء الصالحين.

إن تصورنا للحقيقة المذكورة يجعلنا ندرك معطى جوهريا في الموضوع؛ وهو أن المشاركة السياسية من المنظور الشرعي تابعة للوظيفة الدعوية وداعمة لها، وفي الواقع الذي تكون المشاركة السياسية عقبة في طريق الوظيفة الدعوية، فإنها تكون مذمومة مرفوضة، وهذا هو فقه ومغزى المقولة الشهيرة: “من السياسة ترك السياسة”.

فليست هذه قاعدة ولا أصلا، ولكنها إرشاد إلى عدم الاستعاضة عن الوظيفة الدعوية بالممارسة السياسية، وعدم ترك الأولى للثانية ظنا أنها ستحقق الإصلاح الشرعي الشامل، كما وقعت في ذلك بعض الجماعات التي تحمل هم الإسلام..

وأحب في هذا المدخل أن أقف مع هذه المقولة التي أرى بأنه قد وقعت أخطاء كبيرة في فهمها والاستفادة منها؛ ومن الغريب حقا أن هذه المقولة تم التعامل معها من البعض كأنها وحي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وكثيرا ما كنت أشرح لبعض الإخوة فوائد المشاركة السياسية وما تتأسس عليه من نصوص شرعية وفتاوى مرعية؛ فيقابل ذلك كله بقوله: قال الشيخ الألباني رحمه الله: “إن من السياسة ترك السياسة”.

وهنا أتساءل:

هل هذا التعصب والتقليد الأعمى موقف سلفي؟

ما الفرق بينه وبين تعصب مقلدة المذاهب الذي تنكره السلفية؟

إن الكلمة المذكورة ليست قرآنا ولا سنة ولا إجماعا؛ وحسبها أنها حكمة عالم إمام تدل على ذكائه وفطنته؛ لكن حين وظفها البعض في غير موضعها صارت كلمة حق أريد بها باطل كما قال علي رضي الله عنه للخوارج حين قالوا له: “إن الحكم إلا لله” ..

إن مجال المقولة المذكورة محدود جدا إذا ما أخضعناها للأدلة والقواعد الشرعية؛ وهو حين يكون العمل السياسي بديلا عن الدعوة أو شاغلا عنها؛ نعم يمكن أن نقول هنا: من السياسة ترك السياسة.

وأيضا حين تتفلت الممارسة السياسية من الضوابط الشرعية أو توظف لضرب الدعوة..، ونحو هذه من الحالات التي تكون فيها السياسة جانية على الدعوة..

ومما يؤكد أن هذه المقولة ليست قاعدة في الباب ولا تعني بحال: مشروعية ترك السياسة مطلقا؛ أن صاحب المقولة نفسه رحمه الله أفتى مرارا بالتصويت على الأصلح واعتبره واجبا شرعيا وذم من تركه واعتبره معينا على هيمنة وتسلط أهل الفساد والاستبداد.

وقد بلغ ما اجتمع لدي من فتاويه في هذا الموضوع أزيد من سبع فتاوى ..

يتبع إن شاء الله تعالى

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M