إلجام سورة النفس بتجرع الغضب وكظم الغيظ (ح2)

22 مايو 2015 16:09
إلجام سورة النفس بتجرع الغضب وكظم الغيظ (ح3)

إلجام سورة النفس بتجرع الغضب وكظم الغيظ (ح2)

د. محمد ويلالي

هوية بريس – الجمعة 22 ماي 2015

تناولنا -في الجزء السابق- الحديث عن معضلة الغضب المذموم، الذي استفحل أمره هذه الأيام، وعظم خطره وتأثيره، حتى كثرت المخاصمات، واشتدت المنازعات، وتفاقمت المشاجرات، بين الدول والأمم، وبين الأسر والأقرباء، وبين الإخوان والجيران. وبينا كيف حث شرعنا على تجنب الغضب، ومَدحَ كظمَ الغيظ، ومغالبة النفس.

فإن آنست من نفسك القوة على كظم الغيظ، وتجرع الغضب، فأنت على طريق الظفر بحسنات تنفعك في الآخرة، وتقيك أهوال الآزفة، وعلى نهج يحفظ بدنك، ويقيك جملة من الأمراض المستعصية. وإن كنت ممن تغلبهم النفس، ولا يقوون على ردعها، ومغالبة سلطانها، فتعرف أسباب الغضب لتتجنبها، وأمسك بخيوط العلاج ليصلح حالك، وتسعد نفسك.

أما أسباب الغضب فكثيرة من أهمها:

الإكثار من المزاح والاسترسال في الضحك من الآخر، والمناوشات اللفظية، وذكر المعايب، والإيماءات المؤذية، مما يفضي إلى تغير القلوب، وإثارة الخصومات والأحقاد.

قال أبو البركات الغزي في المزاح المذموم: هو “إزاحة عن الحقوق، ومخرج إلى القطيعة والعقوق.. وربما كان للعداوة والتباغض سببا.. وقد يُعرِّض العِرضَ للهتك، والدماء للسفك. فحق العاقل يتقِيه، وينزه نفسه عن وصمة مساويه”. ولذلك أوصى النبي  -صلى الله عليه وسلم- بتفادي المزاح وإن كان جادا مخافة الوقوع في الخصام فقال: “لاَ يَأْخُذَنَّ أَحَدُكُمْ مَتَاعَ أَخِيهِ لاَعِبًا وَلاَ جَادًّ، وَمَنْ أَخَذَ عَصَا أَخِيهِ فَلْيَرُدَّهَاصحيح سنن أبي داود.

وقال بعض الحكماء: “المزاح يذهب المهابة، ويورث الضغينة والمهانة“.

وقال آخر: “المزاح يجلب الشرَّ صغيرُه، والحربَ كبيرُهُ“.

ومما يورث الغضب: عُجبُ المرء بنفسه، والإحساس بالأفضلية على الآخرين، سواء كان عُجبا بالرأي، فيتصور أن لا أحد أعلم منه، أم بالنسب، فيرى أن لا أحد أشرف منه، أم بالمال والممتلكات، فيتوهم أن كل الناس أفقر منه، أم بالبدن والجمال وكمال الجسم، فيعتقد أن كل الناس أقل جمالا وقوة منه، أم بالذكاء، والفطنة، والكياسة، فيزعم أن لا أحد أذكى منه.. فإذا استحكم العجبُ، أُزرِي بصاحبه، فرُد عليه كلامُه، وانتُقد عليه رأيُه، وسُفهت أحلامُه، فحصل الجدال والخصام. وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “ثلاث مهلكات: هوى متبع، و شح مطاع، وإعجاب المرء بنفسهصحيح الجامع.

فَوَا أَسَـفاً مَا يَفْعَلُ الدُودُ وَالثَـرَى***بِوَجْهٍ  جَمِيـلٍ كَانَ للهِ يَخْجَــــــلُ

وَمَا يَفْعَلُ الجِسْمُ الوَسِيمُ إِذَا ثَوَى***وَصَارَ ضَجِيعَ القَبْرِ يَعْلُوهُ جَنْدَلُ

ومن أسباب الغضب: المراء والجدال، المفضيان إلى التمسك بالرأي، وعدم الإذعان. وقد جعل النبي  -صلى الله عليه وسلم- الجدل سببا ليس فقط للغضب، وإنما للضلال والزيغ عن الهدى. قال  -صلى الله عليه وسلم-: “مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلاَّ أُوتُوا الْجَدَلَ“، ثُمَّ تَلاَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- هَذِهِ الآيَةَ: (مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ)” صحيح سنن الترمذي.

قال عبد الله بن مسعود -صلى الله عليه وسلم- في قوله تعالى: (وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) قال: “أن تماري صاحبك حتى تغضبه“.

وقال عبد الله بن عمر  -رضي الله عنهما-: “الجدال: المراء، والسباب، والخصومات“.

ولذلك كانت مكانةُ مَنْ آثر صفاء النفوس على إثارة الخصومات مكانة عظيمة. قال  -صلى الله عليه وسلم-: “أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ (أطرافها) لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُصحيح سنن أبي داود.

ومن الأسباب -أيضا- اعتقاد الغضب شجاعة وقوة، ودليلا على الرجولة وقوة الشكيمة، وما ذلك إلا مدخل من مداخل الشيطان، يزين بها الغضب حتى يستحيل مشاجرة ومعاركة. قال الغزالي -رحمه الله-: “ومن أشد البواعث على الغضب عند أكثر الجهال: تسميتهم الغضب شجاعة، ورجولة، وعزة نفس، وكِبَر همة”.

مَنْ لِي بِإِنْسَــانٍ إِذَا أَغَضَبْتُهُ***وَجَهِلْتُ كَانَ الحِلْمُ رَدَّ جَوَابِهِ

ومما يثير الغضب، أن يبتلى الإنسان باللسان البذيء، والقول الفاحش، فيعمل لسانه في السب، والشتم، والتعيير، والفحش، دون أن ينتبه إلى أن ذلك يوغر الصدور، ويؤجج الغضب، ويدعو إلى الاحتقان والعداوة. يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: “من أُعطي حظه من الرفق فقد أُعطي حظه من الخير، ومن حرم حظه من الرفق فقد حرم حظه من الخير. أثقل شيء في ميزان المؤمن يوم القيامة حسن الخلق، وإن الله ليبغض الفاحش البذيءصحيح الأدب المفرد.

وأما علاج آفة الغضب فيقتضي استحضار جملة أمور:

الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم حين الغضب، لأن الشيطان أقرب ما يكون من الإنسان في حالة غضبه. قال تعالى: “وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ“. وقال سليمان بن صُرَد  -رضي الله عنه-: استب رجلان عند النبي  -صلى الله عليه وسلم- ونحن عنده جلوس، وأحدهما يسب صاحبه مغضَبا، قد احمر وجهه (وعند مسلم: فَجَعَلَ أَحَدُهُمَا تَحْمَرُّ عَيْنَاهُ، وَتَنْتَفِخُ أَوْدَاجُهُ)، فقال النبي  -صلى الله عليه وسلم-: “إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيممتفق عليه.

على الغاضب أن يستعين حال غضبه بالسكوت، وأن لا يرد على من استثاره واستفزه، فهو أدعى لسكون نفسه، وارْوِعاء مستفِزه. قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “علموا ويسروا، علموا ويسروا، علموا ويسروا ولا تعسروا، وإذا غضب أحدكم فليسكت، وإذا غضب أحدكم فليسكتصحيح الأدب المفرد. قال ابن رجب -رحمه الله-: “وهذا دواء عظيم للغضب، لأن الغضبان يصدر منه في حال غضبه من القول ما يندم عليه في حال زوال غضبه“.

ومن جميل كلام مُوَرِّق العِجْلي -رحمه الله-: “ما امتلأتُ غيضاً قَطُّ، ولا تكلَّمتُ في غضبٍ قطُّ بما أندمُ عليهِ إذا رضيتُ“.

ومن المعينات على تجاوز الغضب، تغيير الحال من القيام إلى القعود، ومن القعود إلى الاضطجاع. قال النبي  -صلى الله عليه وسلم-: “إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ، فَإِنْ ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ وَإِلاَّ فَلْيَضْطَجِعْصحيح سنن أبي داود.

قالت فاطمة -رضي الله عنها- عن زوجها علي بن أبي طالب  -رضي الله عنه-: “كان بيني وبينه شيء، فغاضبني، فخرجالبخاري.

قال ابن رجب: “وقد قيل: إنَّ المعنى في هذا أنَّ القائم متهيِّئ للانتقام، والجالس دونَه في ذلك، والمضطجع أبعدُ عنه، فأمره بالتباعد عن حالةِ الانتقام“.

ومن ذلك القيام للوضوء، وتبريد الجسم بالماء، وقد ورد فيه حديث ضعيف الإسناد. ومن الوصايا الطبية أن الغضب يتولد من الحرارة العامة، والتعرق، والإحساس بالضيق، ويأتي الماء البارد ليخفف من هذه الأعراض.

وقد كلم رجلٌ عُروةَ بنَ محمد السَّعدي فأغضبه، فقام فتوضأ. وقال ابن القيِّم -رحمه الله-: “ولمَّا كان الغَضَب والشهوة جمرتين من نار في قلب ابن آدم، أمر أن يطفئهما بالوضوء، والصلاة، والاستعاذة من الشيطان الرجيم“.

ومن ذلك استحضار ذكر الله واستغفاره عند الغضب، مما يبعثه على الخوف منه، ويحمله على طاعته. قال تعالى: “وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ“. قال عكرمة: “يعني: إذا غضبت“.

وكِل المسيءَ إلى إساءتـه ولا***تتعقَّبِ  الباغي ببغـيٍ تُنصرِ

وادفـعْ بكَـظْم الغَـيْظ آفـةَ غَيِّـه***فإنِ استخفَّك مـرَّةً فاستغفـرِ

وعلى الغاضب أن يتذكر قبح صورته، وتجهم وجهه، والخروج عن طبعه، مما لو رآه بعينه لما غضب. قال الصنعاني -رحمه الله-: “والغضب يترتب عليه تغير الباطن والظاهر، كتغير اللون، والرعدة في الأطراف، وخروج الأفعال على غير ترتيب، واستحالة الخلقة، حتى لو رأى الغضبان نفسه في حالة غضبه لسكن غضبه حياء من قبح صورته، واستحالة خلقته“.

أن يتذكر عظم الثواب المترتب على صبره، وقهر نفسه، وكبت غيظه. قال تعالى: “وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ“.

اتَّضعْ للنَّاسِ إن رُمت العُـلا***واكْظِمِ الغَيْظ ولا  تُبدي الضَّجر

واجعلِ المعروفَ ذُخـرًا إنَّه***للفـتَـــى أفـضــل شيء يُـدَّخـــر

احملِ النَّاس عـلى أخلاقهــم***فـبـه تمـلـكُ أعنـــاقَ البَشـــــــر

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M