أنواع القلوب (ح4) القلب الراضي (ج2)
د. محمد ويلالي
هوية بريس – الأربعاء 19 غشت 2015
الرد على القرآنيين الجدد
تحدثنا في الجزء السابق عن النوع الثاني من القلوب الصحيحة السليمة، وهو القلب الراضي، وبينا أن هذا القلب الثابت المطمئن لا يبغي بديلا عن الرضا بالله ربا، وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيا ورسولا، وبالإسلام دينا.
وركزنا على أن الرضا بمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيا ورسولا يقتضي الإيمان بسنته، والعمل بها، واعتقاد أنها المصدر الثاني للتشريع بعد كتاب الله تعالى. وأشرنا إلى أنه نبتت بين جنباتنا طائفة تزعم لنفسها التمسك بالقرآن، وترى أنه المصدر الوحيد للتشريع، وأن السنة مطروحة لا اعتبار لها، وعقدت لافتراءاتها الندوات، والمحاضرات، وألفت الكتب، ونشرت المجلات، وأنشأت المواقع الإلكترونية، وفتنت شبابنا فتنة عظيمة، فصارت مجالسهم لا تخلو من حديث عن شبهات هذه الطائفة، التي ملكت من الوسائل والطرائق والمغريات، ما استطاعت به زعزعة معتقدات كثير من هؤلاء الشباب، وهنا مكمن الخطورة.
لقد سمت هذه الطائفة نفسها أو سميت بـ”القرآنيين”، أو “أهل القرآن”، ليس لأنهم أهل الله وخاصته، يقرأون كتاب الله آناء الليل وأطراف النهار، ويعملون به وفقا لهدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وفهم سلف الأمة من الصحابة والتابعين والمعتبرين من علماء المسلمين، ولكن لاعتقادهم أن القرآن هو مصدر التشريع الوحيد الذي يجب أن يعتمد، أما حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكلام كسائر كلام البشر، يصيب ويخطئ، ويرد إذا عارض العقل والفكر، ولذلك ذهب بعض أهل العلم، إلى أن هذه الطائفة التي ترجع جذورها إلى اقتفاء بعض أفكار الخوارج الأوائل، الذين أنكروا بعض أحكام السنة النبوية، كحد رجم الزاني، والمسح على الخفين. وظهرت بشكل جلي في الهند في مطلع القرن التاسع عشر، وتزعمها جملة من أبناء تلك البلاد، لتُنتشر بعد ذلك في الباكستان، ثم في مصر. كما تبين أنها طائفة متأثرة بالفكر الغربي، الذي يجتهد في محاربة السنة، والطعن في الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وكتبِ الحديث، كالصحيحين، والسنن، والمسانيد وغيرها.
وتتمثل شبههم في اعتقادهم أن القرآن أحاط -على سبيل التفصيل- بكل قضايا التشريع، أصولها وفروعها، بما لا يحتاج معه إلى بيان خارجي من حديث، أو أقوال الصحابة والمفسرين، واستدلوا بقوله تعالى: “وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ“، وقوله تعالى: “أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ“، وقوله تعالى: “مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ“، ودعموا أدلتهم باختلاف العلماء حول تصحيح بعض الأحاديث وتضعيفها، ووجود كثير من الأحاديث الضعيفة والمكذوبة، وأن تدوين السنة كان متأخرا عن وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وغير ذلك من الشبه التي -ربما- انطلت حيلتها على بعض الناس.
ومنهم من يعتقد أن بعض التفصيلات المعمول بها إنما أخذت من بقايا دين إبراهيم -عليه السلام-، وتوارثها الناس حتى استقر أمرها.
وكانت نتيجة هذا الفهم الضيق، أن خرجوا على الناس بأقاويل وفتاوى غريبة متهالكة مضطربة، اضطروا معها إلى أن يشككوا في بعض آيات القرآن نفسه حين تعارضت مع مذهبهم العقلاني، كقوله تعالى: “لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ“، وزعموا بأن هذا الكلام مدسوس في القرآن، لأنه يصف النبي -صلى الله عليه وسلم- بـ”الرحيم”، وهو وصف لا يليق إلا بالله وحده.
ومن فتاواهم: القول بإسقاط حد الزاني المحصن، فتحا لباب الرذيلة، وحرية المرأة في أن تفعل بجسدها ما تشاء، معتقدين أن هذا الحد إنما ثبت بالسنة فقط، وليس له أثر في القرآن الكريم، ومن ثم، لا يعتد به.
ويرون أن المرأة أحق بإمامة المصلين من الرجال إذا كانت أعلم منهم بالقرآن، وأن الحجاب ليس فرضا على المرأة، وإنما هو واجب على نساء الرسول -صلى الله عليه وسلم- كما هو ظاهر القرآن، وأن الارتداد من الإسلام إلى اليهودية أو النصرانية لا يستوجب حدا ولا ردعا، وأن التدخين في نهار رمضان لا يبطل الصوم، وأن الطلاق كالزواج، لا يكون إلا رضائيا واتفاقيا بين الزوجين.. وغير ذلك من الفتاوى التي بلبلت الشباب، وفتنت النساء، وشغلت الأمة، وفرقت الناس.
والذي تأمل في كتب العقيدة، والفقه، والتفسير، والحديث.. يرى إجماع علماء المسلمين على مصدرية التشريع للسنة النبوية، وأن القرآن الكريم لا يمكن فهم مراده والوصول إلى قصده إلا ببيان من السنة، كما بين النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الظلم المذكور في قوله تعالى: “الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ” هو الشرك، وأن الحساب اليسير في قوله تعالى: “فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا” هو العرض، أي تعرض على المؤمن ذنوبه فيسترها الله عليه، وأن الخيط الأبيض والأسود هما بياض النهار وسواد الليل، وأن الذي رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى هو جبريل -عليه السلام-، و فسر قوله تعالى: “أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ” بطلوع الشمس من مغربها، وفسر الشجرة الطيبة بالنخلة، وفسر قوله تعالى: “يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ” بأن ذلك في القبر حين يُسأل المؤمن: من ربك وما دينك؟، وفسر الزيادة في قوله تعالى: “لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ” بالنظر إلى وجه الله.. وغير ذلك كثير.
فأنى لنا هذا التوجيه من غير استحضار فهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للنصوص، وقد سأله الصحابة عنها وهم جهابذة البيان، وأرباب الفصاحة؟.
أما قوله تعالى: “تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ“، فقد نقل ابن الجوزي عن العلماء قولهم: “أنزل الله القرآن تبيانًا لكل شيء من أمور الدين، إما بالنص عليه، أو بالإحالة على ما يوجب العلم، مثل بيان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أو إجماع المسلمين”.
وقوله تعالى: “مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ“، هو اللوح المحفوظ. قال ابن عباس رضي الله عنهما: “ما تركنا شيئًا إلا قد كتبناه في أمّ الكتاب”، وإليه ذهب قتادة وابن زيد.
قال القرطبي: “ما تركنا شيئًا من أمر الدين إلا وقد دللنا عليه في القرآن، إما دلالةً مبيَّنة مشروحة، وإما مجملةً يُتلقى بيانها من الرسول – عليه الصلاة والسلام-، أو من الإجماع، أو من القياس على الذي ثبت بنص الكتاب”.
لقد حذر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من هذه الفرقة الحائدة عن طريق الحق، المجانبة لسبيل المؤمنين. فقال: “أَلاَ إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ. أَلاَ يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانُ عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ، فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلاَلٍ فَأَحِلُّوهُ، وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ. أَلاَ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ لَحْمُ الْحِمَارِ الأَهْلِيِّ، وَلاَ كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السَّبُعِ..” صحيح سنن أبي داود.
وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث آخر أن السنة كالقرآن في التحليل والتحريم فقال: “يُوشِكُ الرَّجُلُ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ، يُحَدَّثُ بِحَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِي فَيَقُولُ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلاَلٍ اسْتَحْلَلْنَاهُ، وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ. أَلاَ وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِثْلُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ” صحيح سنن ابن ماجة. قال البيهقي: “وهذا خبر من رسول الله عما يكون بعده من رد المبتدعة حديثه، فوجدَ تصديقَه فيما بعد”.
وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الفلاح إنما في الاستمساك بالأصلين: الكتاب والسنة، وما سوى ذلك هو الضلال، فقال -صلى الله عليه وسلم-: “تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما ما تمسكتم بهما: كتاب الله، وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض” صحيح الجامع.
فأي تصريح أوضح من هذا؟ وأي كلام أبين من هذا؟ إلا أن يكون القوم قد صكوا آذانهم عن الحق الأبلج، والصراط الأنهج.
قال الإمام الشاطبي -رحمه الله-: “إن الاقتصار على الكتاب رأى قوم لا خلاق لهم، خارجين عن السنة.. اطرحوا أحكام السنة، فأداهم ذلك إلى الانخلاع عن الجماعة، وتأويل القرآن على غير ما أنزل الله”.
ولقد جاء رجلٌ مطرفَ بنَ عبد الله فقال: لا تحدثونا إلا بالقرآن. فقال له مطرف: “والله ما نريد بالقرآن بدلاً، ولكنا نريد من هو أعلم بالقرآن منا”.
وهذه الأبواب الفقهية من أولها إلى آخرها، وما فيها من تفصيل لقضايا الشرع، من عقيدة، وعبادة، ومعاملات.. أنى لنا معرفة أحكامها ودقائقها لولا السنة؟. قال الآجري: “جميع فرائض الله التي فرضها في كتابه، لا يُعلم الحكمُ فيها إلا بسنن رسول الله – صلى الله عليه وسلم ـ”.
قال الشافعي -رحمه الله-:
كلُّ العُلُومِ سِوى القُرْآنِ مَشْغَلَة***إلاَّ الحَديثَ وَعِلْمَِ الفِقْهِ في الدِّيـنِ
العـلمُ ما كانَ فـيه قـال: حـدثنـا***وَمَا سِوى ذَاكَ وَسْـوَاسُ الشَّيَاطِينِ
فليتق الله أناس عاكفون على كتب هذه الطائفة، مترصدون جديد شبههم على المواقع الإلكترونية، مذيعون لهذه الترهات السقيمة. وليعلموا أنهم موقوفون بين يدي الله، فسائلهم عما نطقت به ألسنتهم، وكتبته أقلامهم، ولن تنفعهم تبعيتهم لفلان أو علان، إلا أن يتبعوا من جعله الله لنا محط الأسوة، ومناط القدوة، نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم.