الدكتور سعد الدين العثماني يكتب: ما هي النفس؟
هوية بريس- الدكتور سعد الدين العثماني
من المباحث التي حار فيها كثير من الدارسين قديما وحديثا هو تعريف النفس، وتحديد مكوناتها. وهنا نشير إلى أن استعمالات لفظ النفس في الدراسات الحديثة تختلف قليلا أو كثيرا – حسب السياقات – عن استعمالات لفظ النفس في القرآن الكريم والأحاديث النبوية والنصوص الدينية والتراثية الأخرى. وتدقيق هذا الأمر مهم حتى لا يقع الخلط في استعمال هذا المصطلح فيهما، مما يمكن أن يكون مصدر خطإ أو تشويش.
ففي القرآن الكريم تستعمل النفس بعدة معان، يهمنا هنا معنى كونها محرك أوجه نشاط الإنسان الإيمانية والأخلاقية، يقول تعالى: “ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها” (الشمس/ 7 – 10). وللنفس القدرة على توجيه الإنسان نحو الخير أو الشر: “قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا، فصبر جميل والله المستعان” (يوسف/ 18)، فهي مستودع الإرادة والاختيار بين الخير والشر، والطاعة والمعصية: “وهديناه النجدين” (البلد/ 10).
أما لفظ النفس في الدراسات العلمية الحديثة فيستعمل بمعنى الجانب غير العضوي أو الفيزيولوجي من “الشخصية”. فهي بالتالي محرك أوجه نشاط الإنسان الإدراكية الفكرية، أو الانفعالية الوجدانية، أو الحركية.
والنتيجة الواضحة لهذا التمييز، أننا عندما نتحدث عن مرض النفس دينيا، فنعني انحرافا في الفهم أو الإرادة، يتحمل الإنسان مسؤوليته وقد يعاقب عليه، ويصلح بالتوجيه الديني والأخلاقي. بينما مرض النفس علميا وطبيا، هو خلل لا إرادي، لا يتحمل الإنسان مسؤوليته في الأصل، ولا يعاقب عليه، بل يكون موضوع رخص وتيسير في الشريعة، وعلاجه يتولاه الأطباء وليس غيرهم.
وإذا أردنا أن نتوقف عند النفس بالمعنى العلمي والطبي، فإننا عندما نقوم بتشريحها أفقيا نجد لها مكونات ثلاثة هي التفكير والعاطفة والسلوك.
والبعض يقصر النفس على الجانب العاطفي الوجداني وحده، وهو المعنى المتداول في كثير من الكتابات المتداولة وفي الاستعمال الشائع. لكن ذلك غير سليم لأسباب عدة. منها أنه يوهم بأن الجانب العاطفي الوجداني مستقل في تطوره ونضجه وتفاعلاته وتأثيراته. وهو غير ذلك كما سنراه.
وهكذا يمكن تعريف النفس بأنها الطريقة التي يفكر بها الشخص، والتي يحس بها وينفعل، والتي يتحرك بها ويعمل. وبعبارة أخرى هناك ثلاثة جوانب تكونها هي: الجانب العقلي والفكري، والجانب الانفعالي والعاطفي، والجانب السلوكي والعملي. ولذلك فإن علم النفس يدرس ثلاثة أوجه من النشاط البشري هي: النشاط العقلي، والنشاط الوجداني، والنشاط الحركي. كما أن الطب النفسي يشخص ويعالج الاختلالات التي تصيب هذه المستويات الثلاثة.
1 ـ الجانب العقلي أو الفكري:
ويرتبط بالقدرة على النظر إلى الواقع وفهمه كما هو، وبقدر مقبول من الموضوعية، وعلى الحكم على الأشياء والمواقف بطريقة سليمة. كما يرتبط بالقدرة العقلية على مواجهة هذا الواقع والتكيف معه بنجاح من خلال اتخاذ القرارات الصائبة والسليمة وإن كانت هذه القرارات مؤلمة وصعبة، ما دامت تؤدي إلى تحقيق النجاح في مواجهة الواقع والتكيف معه بأقل خسائر صحية، بدنية ونفسية، ممكنة.
ويرتبط هذا الجانب أيضا بقدرة الشخص على أن يتبنى لنفسه فلسفة عامة في الحياة بأن تكون لديه مجموعة من التصورات والقيم والمعتقدات الشخصية التي تساعده على حب الحياة وتقبل الناس وتقبل الذات وبما تساعده على تحقيق السعادة الشخصية.
2 ـ الجانب الانفعالي أو العاطفي:
ويرتبط بالمشاعر والأحاسيس الداخلية للإنسان، وحالته المزاجية مثل الاطمئنان أو القلق، السعادة والفرح أو الحزن والكآبة، الإعجاب والود أو الغضب والحسد والكره، الرضا والأمل أو الإحباط واليأس، إلى آخر المشاعر الإنسانية الفطرية التي يشعر بها الإنسان. وهكذا فإن حياة الإنسان هي مزيج من خبرات متناقضة، تضم هذه الأحاسيس كلها في تداخل وتفاعل. وقد اقتضت حكمة الله تعالى أن على الإنسان أن يختبرها على الرغم من تناقضها خلال حياته، لأن شعور الإنسان بها جميعا يعتبر ضروريا لكي يستطيع أن يتعلم ويتكيف معها فيكتسب ـ وفق بعض الشروط ـ صلابة عاطفية أو انفعالية. وهذا يؤهله بالتالي للوصول إلى درجة النضج العاطفي والانفعالي.
3 ـ الجانب السلوكي والعملي:
ويرتبط بقدرة الإنسان على الفعل في الواقع وفق ما يمليه الجانبان الفكري والعاطفي، وفي انسجام معهما، وبقدرته على التفاعل العملي مع واقعه والتكيف معه.
ما هي أهم تطبيقات هذه المقدمات في مجال الصحة النفسية يا ترى؟
هناك أولا استنتاج تعريف بسيط للصحة النفسية يقول بأنها عبارة عن سلامة كل مكون من مكوناتها. فهي قدرة الشخص على التفكير والحكم على الأشياء بطريقة سليمة، وعلى استثمار عواطفه بصورة مناسبة، وعلى التعامل والتفاعل مع وسطه بطريقة إيجابية. وغني عن البيان أنه ليس هناك حد دقيق فاصل بين وجود الصحة النفسية أو انعدامها، بل الأمر نسبي يتعلق بمستويات متدرجة في كل مكون من المكونات، ونحكم على أن بعضها أقل أو أكثر سلامة من بعضها.
ونستفيد من تقسيم النفس إلى مكوناتها الثلاثة ثانيا ترابط هذه المكونات وتفاعلها. فأي سلوك للفرد هو نشاط كلي متكامل، ليس نشاطا معرفيا بحتا ولا نشاطا انفعاليا بحتا أو حركيا بحتا.
وبالتالي فإن أي اضطراب في أي من هذه المكونات يؤثر سلبا على الآخر. فإذا وقع اضطراب في الجانب العقلي، تبعه بصورة أو بأخرى الجانبان العاطفي والسلوكي. وفي المقابل فإن معالجة ذلك الاضطراب قد يكون مدخله من أي واحد من المكونات الثلاثة. وبالتالي يمكن مثلا أن نتحدث عن المدخل السلوكي أو المدخل الفكري (أو المعرفي) لمعالجة اضطراب عاطفي. والعكس صحيح. وهذا الأمر له تطبيقات عملية في مقاربة الاضطرابات النفسية، وثبتت نجاعته وفاعليته.