النموذج النسائي التراثي الفريد في مقابل النسوية الحداثية العالمية
هوية بريس – محمد بوقنطار
النموذج الفريد الأول “أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها“
عندما زار رسول الوحي رسول الله صلى الله عليه وسلم لأول مرة في غار حراء وهو يتحنث الليالي ذوات العدد، وحصل ما حصل من المعلوم من السيرة بالضرورة، هرول عليه الصلاة والسلام في مسعى زوجه خديجة فزعا من هول اللقاء التأسيسي الأول، حيث قال لها معبرًا عن خشيته: “لقد خشيتُ على نفسي”، فأجابته رضي الله عنها إجابة الواثقة المحسنة الظن بربها، الخابرة لمعاني السمو في ما سلف من أخلاق وصدق وأمانة سيد الخلق، فأقسمت في يقين واستبشار قائلة:
“كلا، أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدا؛ إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق“.
إنها كلمات خرجت من وجدان صادق في موقف كان النبي صلى الله عليه وسلم يحتاج فيه إلى سند وتعضيد معنوي لينطلق نور وهدى الرسالة المحمدية، ولتعمر أنفاسها التوحيدية مناكب الأرض وما زوي للنبي منها.
إنه قسم يقيني انبنى على قواعد المودة والرحمة وحسن التبعل وجميل التكفل، حيث كانت العلائق الأسرية مقامة على قواعد الرحمة واختيارات اليسر ومبادئ الأخوة والتعاون وفن التغافل، لا الخصومات والعداوات والجفوة الطافحة والشكوك الموبوءة والندية المارقة واليقظة المتطرفة التي صارت أصلا قد راكم طابورا ضاربا في الطول من المطلقات، وركاما طانبا في العرض من العنوسة، ما فتئت هذه الكيانات النسائية الحائف ركزها تتكتم وتتستر بقصد مدخول على معدلات نسبها المهولة مخافة رمي تعديلاتها المتهارشة على مدونة الأسرة بالفشل والإفلاس، نسأل الله أن يعيد نساءنا ورجالنا إلى تحكيم شرع الله وسنة نبيه في الأعناق والأرحام والأرزاق والأولاد والأحفاد آمين.
النموذج النسائي التراثي الفريد في مقابل النسوية الحداثية العالمية
النموذج الفريد الثاني “أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق عائشة رضي الله عنهما“
#الموقف الأول
لكل دين خلق، وخلق الإسلام الحياء، ولا شك أن الحياء يهدي إلى العفة، كما أن العفة تحفظ الكرامة، وحفظها يضمن للكريم عيش المعنى الحقيقي للحرية، إنها سلسلة ذهبية الحلقات يجر بعضها بعضا في غير انفكاك، فمتى ما سقطت حلقة من سياق التشاكل الناظم انصرم عقد الحياة الطيبة، واختل ميزان العدل وتسفل معيار الفضل إلى درك سحيق…
إنها المعاني المتسامية التي نشأت عليها المرأة وتربت على عراها وسط جماعة تدين لله بالاستقامة، وهي المعاني التي مثلت فيها أمهات المؤمنين النموذج الفريد في مقام القدوة، فهذه عائشة حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم تستدرك على الرحمة المهداة وقد استشكلت لعرضها حتى في ذلك الموقف الرهيب وهو يحدثها عن الحشر، وكيف أن الناس سيحشرون حُفاةً عُراةً غُرْلًا فتقول عاطفة على كلامه في اهتبال وخشية: يا رَسولَ اللَّهِ، الرِّجالُ والنِّساءُ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ؟ فقالَ: الأمْرُ أشَدُّ مِن أنْ يُهِمَّهُمْ ذاكِ.
نعم حتى في ذلك المشهد الذي يفر فيه المرء – لشدة صاخته، ولغنيته يومئذ بشأنه – مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وبنيه، تستبرئ الطاهرة العفيفة البريئة المبرأة لعرضها وحمى بدنها الشريف.
ولك بعد هذا أن تفتح نافذة الواقع الحالي الموبوء لتطل من خرقها الرباعي الأضلاع، على نكبة شوارعنا، ومأساة أزقتنا وأسواقنا مع العري والسفور، والتمسلخ بمسلاخ قلة الحياء، التي وصل نكدها بكسر ذكوري أن يتتبع خلفية زوجه ومؤخرتها المتكشفة في مسخ طافح ومنظر خادش للحياء ، يصورها هذا البعل الذكر الديوث ليضعها في ماجريات “اليوتيوب” تدويلا للفضيحة ونشرا للرذيلة، واستفزازا لشهوات مستعرة في صدور الناظرين، يتمنى هو أن يجاوز عددهم المليون ناظر ليجني سحت القِوادة، ألا بئس التمني، ألا ساء التسفل والتدني، ألا اصنعوا لآل جعفر طعاما فقد جاء ما يكلمهم، و”إنا لله وإنا إليه راجعون“
النموذج النسائي التراثي الفريد في مقابل النسوية الحداثية العالمية.
النموذج الفريد الثاني “أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق عائشة رضي الله عنهما“
#الموقف الثاني.
رُوي إبان حادثة الإفك وفي خضم أتون فتنتها الهالكة أن أبا أيوب خالد بن زيد قالت له امرأته أم أيوب: يا أبا أيوب، أما تسمع ما يقول الناس في عائشة رضي الله عنها؟ قال: نعم، وذلك الكذب، أكُنْتِ فاعلة ذلك يا أم أيوب؟ قالت: لا والله ما كنت لأفعله، قال: فعائشة والله خير منكِ”.، والحقيقة أن باب الرواية في مقام تبرئة حبيبة رسول الله قد ترادفت على رفه الشواهد تلو الشواهد، إلى أن زكّى القرآن وحسم ودحض ونسف إفك الأفاكين، وأعظم بها من تبرئة سماوية المصدر ربانية الملفوظ..
وإنّها لشهادة جمعت بين الفضل والعدل الإلهي لسيدة تحكي عن نفسها كما حدثنا : حماد بن أسامة ، قال : أخبرنا : هشام ، عن أبيه، عن عائشة، قالت: كنت أدخل بيتي الذي دفن فيه رسول الله (ص) وأبي فأضع ثوبي فأقول : إنما هو زوجي وأبي ، فلما دفن عمر معهم فوالله ما دخلت إلا وأنا مشدودة علي ثيابي حياء من عمر.
يا الله عمر الميت يا عائشة ! يا ليت شعري لو أنك بين ظهرانينا أيّتها العفيفة والزمن زمن صيف، والمكان مكان مصيف وقد ضاق الشاطئ على رحابة وشساعة رماله الذهبية بركام من النساء العاريات عري قد قل نظيره حتى في حياة الجاهلية الأولى، أو حتى في الحياة البدائية في أدغال إفريقيا !!!
إنه نموذج أخلاقي فريد، وسيرة عطرة لسيدة من سيدات الجيل الفريد عاشت رضي الله عنها في كنف بيت النبوة، وتلكم واحدة من قدوات نسائنا في العلم والأخلاق والسلوك، حقيق بهن إن هن كن يردن حسن العاقبة ويرُمن النجاة في الدنيا والآخرة، وعرفن الغاية من خلقهن، وأنّها محض العبودية التي تُنافي الهوى وتُجافي المعصية وتُعادي استعبادهما لناصية المرأة وجسدها، بل تنأى بها بعيدا عن هذا الصراع المفتعل، الذي يريد منه رواده ومخرجوه الزج بالمرأة المسلمة في بحر لجي تغشاه أمواج الشبهات وتعلوه ظلمات الشهوات، وإنما مزاعم التحرير ودعوى الحرية تتكشف على محك الابتلاءات لنقف نحن وإياها أما وأختا وزوجا وابنة على حقيقة هذه المزاعم وهذا الضجيج الملحون الشكاوى، وأنها فعلا حرية، ولكنها حرية عبرها يتسنى ويتم الوصول إلى جسد المرأة دون أدنى لوم أو محاسبة لمعشر المتهارشين على عرضها وكيانها ومنزلتها غير المنفكة عن صفات الطهر والأمومة ليست العازبة طبعا، وإنما الأمومة المكرمة الطاهرة النقية في كنف الشريعة الغراء، والزوج الكريم الفاضل الغيور على عرين أسرته، صاحب القوامة بالمعروف، الحسن التبعل…
النموذج النسائي التراثي الفريد في مقابل النسوية الحداثية العالمية.
النموذج الفريد الثالث: امرأة من أهل الجنة
في الوقت الذي يسعى فيه المجتمع المدني إلى تكريس ظاهرة العري والسفور، ومن ثم اعتبارها كأصل يرمز إلى التحضر والتمدن، ومخاصمة التقاليد المحجِّرة على واسع تحرّر جنس المرأة، ونوعها الحداثي الذي اقتحم عقبات وحاز أنفالا ومغانم متهومة النفع سرابية المكسب، ولا يزل طيفه النسوي يصارع ويدافع من أجل المساواة بين الذكر والأنثى في كل شيء، غير عابئ بديننا ولا ملتنا ولا أعرافنا وتقاليدنا المشبعة بشعب الإيمان والحياء الفطري، وهي التقاليد التي تربينا عليها حينا من الدهر ليس بقصير.
وهو طيف نسوي يضم نسيجه مستحلب خليط بين ذكور همهم الإشباع الغرائزي في دائرة المحرم المعيب طبعا، ومستنسخ إناث يرفعن شعار الاستعداء ويقدن حربهن الحقوقية من أجل أن تعود علاقة المرأة المسلمة بربها إلى نقطة الصفر، فبيت الزوجية الذي كان سكنا تملأه الطمأنينة وتسوده الرحمة والمودة أضحى فجأة في أدبيات القوم سجنا عنوانه القهر والعنف وتسلّط الرجل على المرأة بسيف القوامة، كما صارت فيه العلاقات الغير الشرعية عنوان حرية المرأة في تملك جسدها حتى صارت الزنا علاقة حميمية تُقدِّم فيها المرأة نفسها قربانا وفداء للشعار الذي مفاده “جسدي حريتي”
إننا لا نملك في ظل هذه العتمة الفاقعة السواد الغاسقة الشرور إلا أن نتحسس تلك الأنوار المكافحة لهذه الظلمات، لنخرج عبر نقطها البيضاء إلى رحابة النموذج النسائي الذي عاش الحرية الحقيقية في أسمى تجلياتها، تاركين بعد الإدلاء بالأنموذج النسوي الإسلامي في مقام الاستشهاد، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد أن يقارن بعقله وفؤاده وذهنه ووجدانه، بين الفريقين حاكما في تجرد وإنصاف عن أيّهما أهدى سبيلا، وأقوم فعلا وقيلا.
ولك هذا النموذج الفريد الذي آثر الصبر على الابتلاء والمرض، لكنه لم يصبر على حالة التكشف التي كانت تعيشها هذه السيدة الفاضلة أثناء الصرع، أي أنها كانت تتكشف وهي مغيّبة العقل الحارس للجارحة، والأكيد أنها أُخبرت بذلك، ولم يكن ذلك طبعا في أطول شارع أو أكبر إدارة أو أشسع شاطئ، وإنّما كان تكشفا في قعر قعر البيت وسط المحارم من الأهل أصلا وفرعا… فهاك أيها المنصف نص الرواية الحديثية: عن عطاء بن أبي رباح قال : قال لي ابن عباس رضي الله عنهم ((ألا أريك امرأةً من أهل الجنة؟ قلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء، أتت النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أُصرع وإنِّي أتكشَّف، فادعُ الله لي، قال: إن شئتِ صبرتِ ولك الجنة، وإن شئتِ دعوتُ الله تعالى أن يُعافيَك. قالت: أصبر ، فقالت: إني أتكشَّف ، فادعُ الله ألا أتكشف، فدعا لها)).
النموذج النسائي التراثي الفريد في مقابل النسوية الحداثية العالمية.
النموذج الفريد الرابع: استدراك هند بنت عتبة وهي تبايع النبي صلى الله عليه وسلم…
تتعالى أصوات الفصيل النسوي الحداثي المتطرف، في سياق حربه على القيم والأخلاق والأعراف المرعية، مجردا سيف التجاسر من غمد قلة الحياء، مطالبا أناء الليل وأطراف النهار بضرورة إسقاط الفصل 490 من مجموعة القانون الجنائي المغربي المجرّم للعلاقات الجنسية خارج إطار الزواج، موردا أن هذا الفصل لا يليق بمغرب اليوم، مغرب الحداثة والمعاصرة، وأنه تحكم، وتحجير، وكبح، واعتساف، يقع حيفه على حق المرأة وحريتها في التصرف في جسدها، ومن ثم منحه لمن تشاء وأنى تشاء، بضابط ” أنا راضية وأمي راضية وإنت ما لك يا با“.
فما دام الرضا يطبع هذا المنح المقيت فللضوء الأخضر أن يؤشر مانحا حق العبور لأيها كان، وما دام هذا القربان يقدم إلى الخدن المسافح تحت طائلة القناعة الأخلاقية الشخصية للزانية، وسطوة الإحساس الحميمي بينها وبين المخاني، فكل اعتراض أو محاسبة يعد جورا وظلما وتسلطا وفضولا لا طائل منه ولا جدوى…
فهل تعي المرأة في إطار هذا الضجيج الحقوقي الحائف، والضرب العشوائي الزائف، حقيقة هذا الوضع الكارثي، فتتبين وتتحسس حجم هذه المأساة التي انقلبت فيها الأدوار فألبست الضحية مسلاخ الجلاد، وصار الوائدون للعرض في جبانة الأرض هم المخلصون الحريصون على حق المرأة في عيش الحياة بطولها وعرضها بمنأى عن قيد الحلال وغل الحرام، ألا ساء ما يحكمون…
إننا ونحن نلعن هذا الظلام، ونشكو لله من شر غاسقه المتكرر الوقوب، لنفزع إلى فتح نافذة ماضينا المشرق، فما يبرح أن يتسلل منه ضياء المواقف الضاربة في عمق المعاني الجليلة للإنسانية، تلك الإنسانية الشاطة بجنسها ونوعها عن عيش حياة الأنعام، إنها المواقف التي شكل أركان لوحتها الطوباوية التجارب، نساء عظيمات العرف، سليلات الشرف لا الترف، وعزيزات القدر لا متهتكات الخصر، فعن عائشة قالت: جاءت هند بنت عتبة تبايع. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبايعك على ألا تشركي بالله شيئا. ولا تسرقي، ولا تزني. قالت: أو تزني الحرة يا رسول الله؟
إنه استفهام استدراكي بين يدي سيد الخلق من لدن امرأة عرفت المعنى الحقيقي للحرية، فاستبرأت لعرضها ولزمت ثغر الحياء، وفازت وفاز جيلها الفريد بكل خير وهناء…
ولك أن تقارن أيها المنصف بين هذا الأنموذج الفريد، وبين أولئك من اللواتي انسلخن عن آيات الله، وأخلدن إلى نجاسة التراب.
كما لك أن تختار مع من تؤمن على حياتك، وتطمئن على لحظات عمرك الذي هو عارية مسترجعة، أمع هذه وقد ربح البيع يا أبا الدحداح؟ أم مع اللواتي تحنذ أجسادهن في تنور الرذيلة، ويؤكل لحمهن في ماخور الوأد الحداثي العنيف المتطرف، وقد خاب وخسر هنالك المبطلون.
النموذج النسائي المعاصر الفريد في مقابل النسوية الحداثية العالمية
النموذج الفريد الخامس: عائشة عبد الرحمن “بنت الشاطئ”
الإنصاف عزيز، ومنه الشهادة في تجرد أن الحديث عن ثلة الخير والتميّز من ذلك الجيل التأسيسي الفريد النموذج، له امتداد مثالي تحاكي فيه أجيال من الخلف والمعاصرة في دائرة الفضل المخصوص لا المطلق، سلفها الصالح، فلا يعدم الخير من أمة محمد عليه الصلاة والسلام أولها وآخرها كما دلت الأحاديث وشهد الواقع وجاد به الحاضر
فهذه عائشة عبد الرحمن “بنت الشاطئ” الكاتبة والمفكرة والأستاذة والباحثة، والتي شكلت نموذجا نادرا وفريدا للمرأة المسلمة في ثوبها المعاصر
وقد تركت هذه السيدة الفاضلة رصيدا معرفيا وإنتاجا غزيرا يربو على الأربعين كتابًا استوعبت مواضيعها الدراسات الفقهية والإسلامية والأدبية والتاريخية؛ نذكر منها على سبيل التمثيل لا الحصر: “التفسير البياني للقرآن الكريم”، و”القرآن وقضايا الإنسان”، و”تراجم سيدات بيت النبوة”، كما اشتغلت بتحقيق الكثير من النصوص والوثائق والمخطوطات. وقد راكم جهدها العلمي العديد من الدراسات اللغوية والأدبية والتاريخية كان من أبرزها: “نص رسالة الغفران للمَعَرِّي”، و”الخنساء الشاعرة العربية الأولى”، و”مقدمة في المنهج”… وقد كانت كتاباتها موضوعًا لدراسات غربية ورسائل جامعية في الغرب، بل وفي أوزبكستان واليابان.
ولعل من أجمل وأبهى صور البوح التي عثرت عليها ووقعت عيني على محاسن حبكها، شهادة هذه السيّدة العالمة المربية في حق أبيها فقد تحدثت عن أبيها فقالت: “إلى من أعزني الله به أبًا تقيًّا زكيًّا، ومعلمًا مرشدًا، ورائدًا أمينًا ملهمًا، وإمامًا مهيبًا قدوة: فضيلة والدي العارف بالله العالم العامل: الشيخ محمد عليّ عبد الرحمن الحسيني؛ نذرني رضي الله عنه لعلوم الإسلام، ووجَّهني من المهد إلى المدرسة الإسلامية، وقاد خُطاي الأولى على الطريق السويِّ، يحصنني بمناعة تحمي فطرتي من ذرائع المسخ والتشويه“
فرحم الله الوالد وما ولد آمين.
فشتان شتان بين هذه النسمة الطيبة المباركة، ونساء تتعالى أصواتهن أينما حللن وارتحلن، جلسن ووقفنا، صمتن وتكلمن، لم يزلن يرفعن عقيرة العدوان على قوامة الأب وسلطته التربوية على معشر بناته، وما فتئن يطالبن بسحب غطاء الوصاية والولاية من تحت أقدام السيد الوالد الكادح المربي الموصي العامل الغيور الحريص على حمى أسرته، المرابط بعين لا تكاد تنام على حياض عرينه.
النموذج النسائي التراثي والمعاصر الفريد في مقابل النسوية الحداثية العالمية
الإسلام العظيم يتحدى
استهل الإسلام دعوته الخالدة ورسالته العادلة وسط مناخ وثني موبوء، وبيئة أعرابية تعج بمظاهر العنصرية الذكورية الطافحة بالميز والقهر والإذلال لجنس المرأة ونوعها، فلقد كانت المرأة سلعة تُباع في أسواق النخاسة، وبضاعة تشترى، وتركة تورث ولا ترث، وبضع تنكح على المشاع، وكل هذا يعد امتيازا قد يُمنّ عليها به إن هي سلمت ونجت ابتداء من الدس الآثم في التراب، وإنّما كان البائع هاهنا هو الوالد الوائد لا سواه، وقد صوّر القرآن هذه المأساة الإنسانية في أسلوب حصيف ولوم أسيف إذ قال جلّ جلاله:” وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَىٰ مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ ۚ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ ۗ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ”
إن جهاد الإسلام، ونبي الإسلام في التصدي ومدافعة هذا السلوك المشين لا ينكره إلا جاحد، فقد حرصت نصوص الوحي مبكرا على أن تضع حدا لهذا الاعتساف الذكوري، ومن ثم أرست البدائل السويّة التي تقوم فيها قواعد الأولوية على إنشاء آثارها في النفوس لتصحيح المشاعر الفردية وسلامتها، وربطها في غير انفكاك بسلامة الحياة الاجتماعية واستقامة المجتمع الإسلامي، وقد جاء السياق القرآني في مقام المعتبر الترتيب مانحا السبق في دائرة الهبة للأنثى، ” لِلَّهِ مُلْك السَّمَوَات وَالْأَرْض يَخْلُق مَا يَشَاء يَهَب لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَب لِمَنْ يَشَاء الذُّكُور أَوْ يُزَوِّجهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا” ولا شك أنه انتصار على مظاهر الجاهلية التي عاشت في دواخل الرجل الجاهلي حينا من الدهر غير قصير، بل تواترت الآيات الكريمات في نسف هذا الموروث الجاهلي لتجعل الذكر والأنثى وتضعهما على قدم المساواة في مضمار لحاق الخيرات ونوال الطيبات الزكيات، حيث صرّحت النصوص بما يفيد بالمنطوق على هذا وقد قال ربنا جلّ جلاله:”وَمَن يَعْمَلْ مِنَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَٰئِكَ يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا” وقال سبحانه أيضا:“من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون”
إن المنصف المتجرد لا يستنكف أن يعترف للإسلام بفضله في هذا المقام، بعيدا عن الضجيج النسوي الحداثي الذي طفق في حراكه يخبط خبط عشواء، جاعلا الإسلام شماعة قد علّق ويُعلِّق عليها كل كبيرة وصغيرة ويحسب على أفنانها كل صيحة ورشحة إلى منطقة السُفل.
ويا ليت المرأة المسلمة تعرف وتعترف لهذا الحصن الحصين بفضله على جنسها ونوعها، وقد كان من درجات فضله عليها وكامل صيانته لشخصها أن حرّم إرداف الرجل الغريب النظرة الثانية للأولى، وكساها بثوب العفة ليشط بها عن خائنة الأعين وينجيها من كيد ما تخفيه صدور المتربصين، من الذين عرفنا من ركزهم أنهم لا يسعون لحرية المرأة، بل ما فتئوا يسعون للحرية التي تجعلها بابا مشرها، وأرضا مشاعا، وكلأً مستباحا، وحمًا لا حارس لها ولا مسؤول…
نسأل الله أن يجعل كيد الكائدين في نحورهم لا في نحرها وأن يجعل دائرة السوء عليهم لا عليها آمين.