هل يصلح العطار ما أفسده الدهر؟

هل يصلح العطار ما أفسده الدهر؟
هوية بريس – عبد الإله الرضواني*
كشفت الاحتجاجات الأخيرة التي قادها ما يُعرف بـجيل ِزدْ (Z) عن حالة غير مسبوقة من الغضب الشعبي تجاه واقع الفساد المستشري في المغرب. هذا الجيل، الذي نشأ في زمن الانفتاح الرقمي وتراجع الثقة في الخطاب الرسمي، لم يعد يقبل بالتبريرات القديمة ولا بالحلول الترقيعية التي تتكرر عند كل أزمة.
لقد حركت هذه الاحتجاجات المياه الراكدة، وطرحت بصوت عالٍ أسئلة لن نقول انها جديدة، ولكنها قوية وعمية: أين تذهب ثروات البلد؟ ولماذا لا يُحاسب الفاسدون؟ وكيف تحوّلت مؤسسات الدولة إلى فضاءات لتوزيع الغنائم بدل خدمة الصالح العام؟
في العمق، لا يمكن فهم هذه الغضبة إلا بوصفها نتيجة طبيعية لتراكم طويل لسياسات الإفلات من العقاب، التي جعلت الفساد في المغرب ليس مجرد حالات معزولة، بل منظومة متكاملة تتغلغل في الإدارة والاقتصاد والتعليم والصحة وكل مفاصل الدولة. لقد أصبح الفساد نمطًا شبه مؤسسي لإدارة الشأن العام، حيث تلتقي المصالح الخاصة مع غياب الرقابة، وتتحول الوظائف العمومية إلى امتيازات لا إلى مسؤوليات. لقد تغلغل الفساد في مؤسسات الدولة، واستقر في وعي المجتمع، حتى صار بنية ثقافية واقتصادية قائمة بذاتها، تُدار بها العلاقات بين المواطن والإدارة، وبين السلطة والمجتمع.
من السذاجة الاعتقاد أن محاربة الفساد يمكن أن تتحقق عبر قرارات ظرفية أو شعارات موسمية. فالمعضلة ليست في غياب القوانين، بل في غياب الإرادة السياسية لتطبيقها بعدل وشجاعة. فالتجربة أظهرت أن التقارير الرسمية التي تكشف الاختلالات الجسيمة تنتهي غالبًا إلى الأدراج، وأن من ينهب المال العام يعيش في مأمن من المساءلة، بل يُكافأ أحيانًا بالمناصب والترقيات. هذا الوضع جعل المواطن المغربي يفقد الثقة في جدوى مؤسسات الرقابة، لأنه يرى بأم عينه أن من ينهب المال العام يعيش في مأمن من العقاب، في حين يُحاسَب الصغار على أخطاء بسيطة، فقط ليُقال إن الدولة لا تتسامح مع الفساد.
إن السلطة التي لا تحاسب الفاسدين تشارك في صناعة الفساد، لأنها تُرسّخ منطق الإفلات من العقاب، وتمنح المفسدين شعورًا بأنهم فوق القانون، وتُفرغ مبدأ المحاسبة من مضمونه الأخلاقي والقانوني.
غير أن الدولة ليست وحدها المسؤولة؛ فالمجتمع أيضًا جزء من المشكلة. إذ أصبح الفساد نمطًا اجتماعيًا مألوفًا، يمارسه المواطن العادي دون شعور بالذنب أو الحرج. الرشوة الصغيرة، والغش، واستغلال العلاقات، والمحسوبية، كلها سلوكيات تُبرَّر بأنها ضرورات أو حِيَل مشروعة في واقع صعب.
بهذا المعنى، تحوّل الفساد من انحراف فردي إلى ثقافة اجتماعية مطبّعة، يجد فيها المواطن مبررات أخلاقية تريح ضميره، خصوصًا في ظل غياب القدوة وتفكك منظومة القيم.
وإلى جانب هذا الانحدار القيمي، يبرز انعدام الوازع الديني لدى فئة من الناس كعامل إضافي في تفشي الفساد. فحين يغيب الشعور بالمسؤولية أمام الله، ويضعف الإحساس بالحرام والحلال، يصبح المال العام مباحًا، والمصلحة الشخصية مبررًا لكل تجاوز. لقد كانت القيم الدينية عبر التاريخ ضميرًا أخلاقيًا يردع الإنسان عن الظلم والغش والخيانة، لكن حين يتحول الدين إلى مظاهر شكلية بلا مضمون، يفقد المجتمع إحدى أهم آلياته الداخلية في مقاومة الفساد. فالقانون يمكن التحايل عليه، لكن الضمير الحيّ لا يمكن خداعه.
من هنا، يتضح أن الإصلاح لا يمكن أن يكون ترقيعيًا أو تجميليًا. لا جدوى من حملات دعائية أو لجان مؤقتة، ما دامت العدالة الانتقائية قائمة، وما دام الفاسدون الكبار يتمتعون بالحصانة. فالإصلاح الحقيقي يتطلب ثورة شاملة في القيم والمؤسسات معًا. الإصلاح الحقيقي يحتاج الى محاسبة حقيقية لا تعرف الخطوط الحمراء، تطال كل من ينهب المال العام مهما كان موقعه من جهة، والى تجديد ثقافي وتربوي يعيد ترميم الوازع الأخلاقي والديني، ويغرس في الأجيال الجديدة ثقافة النزاهة واحترام القانون والمال العام من جهة أخرى.
إن ما يحتاجه المغرب اليوم ليس «عطارًا» يُجمّل ما أفسده الدهر، بل مشروعًا وطنيًا صادقًا يُعيد للضمير سلطته، وللقانون هيبته، وللأخلاق مكانتها.
فمن دون عدالة صارمة وضمير حيّ، سيبقى الفساد أكبر من الدولة، وسيظل “الإصلاح” مجرّد ماكياج فوق جرح متعفّن.
ــــــــــــــــــــــ
* أستاذ باحث في علوم الطب الحيوي – معهد قطر لبحوث الطب الحيوي، جامعة حمد بن خليفة



