الإمام الماوردي والتربية

14 نوفمبر 2015 20:09

ذ. احسايني

هوية بريس – السبت 14 نونبر 2015

قال الإمام الماوردي: “أم الشروط التي يتوفر بها علم الطالب، وينتهي معها كمال الراغب، مع ما يلاحظ به من التوفيق، ويمتد به من المعونة، فتسعة شروط؛ الأول: العقل الذي يدرك به حقائق الأمور، الثاني: الفطنة التي يتصور بها غوامض العلوم، الثالث: الذكاء الذي يستقر به حفظ ما تصوره، وفهم ما علمه، الرابع: الشهوة التي يدوم بها الطلب، ولا يسرع إليها الملل، الخامس: الاكتفاء بمادة تغنيه عن كلف الطلب، السادس: الفراغ الذي يكون معه التوفر، ويحصل به الاستكثار، السابع: عدم القواطع المذهلة من هموم وأشغال وأمراض، الثامن: طول العمر، واتساع المدة، لينتهي بالاستكثار إلى مراتب الكمال، التاسع: الظفر بعالم سمح بعلمه، متأن في تعلمه. فإذا استكمل هذه الشروط التسعة فهو أسعد طالب وأنجح متعلم” (من كتاب: أدب الدنيا والدين، ص: 111/112).

يحيلنا نص الإمام حبيب البصري الماوردي المتوفى سنة 450هـ، الذي تحدث في كتابه آداب الدنيا والدين عموما عن سبل اصلاح الدين وانتظام الحياة، لتصح العبادة وتحصل السعادة، وقسمه إلى خمسة ابواب ؛ باب خاص بالعقل وذم الهوى، وباب بخاص بآداب العلم، وباب خاص بآداب الدين، وباب خاص بآداب الدنيا، وباب خاص بآداب النفس.

فجرد في كتابه من اقوال الفقهاء ما يعينه على بغيته، واختار من حكم الادباء ما يعضد مذهبه ويسمي رأيه، فجعل عظم الوسيلة مأخوذة من عظمة النتيجة، وتحقيق عظيم نتيجة متوقفة على جهد الجاهد ورغبة الراغب وسلامتها من العوارض المرغوب عنها.

فأحالنا النص على طرح اشكالية كبرى وجوهرية في مجال علم التدريس مفادها:

  • كيف يحصل التعلم؟ او كيف يتعلم المتعلم؟
  • الجوانب المكونة لشخصية المتعلم الاجتماعية، والسيكولوجية، والبيولوجيا، إثر على مستوى التعلمات، سواء في جودته ام ضعفه؟ أم أن ذلك كله راجع للمعلم فقط؟

يعتبر التعليم كدعامة اساسية في العملية التعليمية التعلمية، اذ هو عملية مقصودة تتطلب نشاط تبادليا يتفاعل فيها المعلم مع الطلبة، لهدف مساعدتهم على التعلم وتغيير سلوكهم.

وقد نص الإمام الماوردي رحمه الله تعالى، في نصه أعلاه في معرض حديثه عن آداب العلم في كتابه، على عوامل جعلها اسس تعلم المتعلم، وأجملها في تسعة عوامل تتنوع على حسب عناصر العملية التعليمية التعلمية إلى ما هو خاص بالمنهاج؛ التدرج في التدريس: وذلك بقوله في الشرط الثامن “لينتهي بالاستكثار إلى مراتب الكمال”، فأوحى لنا لفظ مراتب إلى ضرورة التدرج في التعليم من السهل إلى الصعب وهذا يستدعي عدة أمور الانتقال من المحسوس إلى المعدوم، ومن الجزء إلى الكل، ليصل إلى الكمال المبتغى، وهو ما يصطلح عليه الان في علم التدريس بالنقل الديداكتيكي.

ملاءمة التعلمات لقدرات المتعلمين في تنصيصه على الشهوة في الشرط الرابع، اذ بملاءمة المادة لميولات المتعلمين تتولد لديهم الرغبة والدافعية نحو التعلم والمثابرة والاستمرارية، وكلما كانت المادة فوق طاقتهم وقدراتهم العقلية، إلا وتولد لديهم الملل وتكونت لدبهم عقد نفسية تجاه تلك المادة.

ومنها ما هو مرتبط بالركنين الأساسيين للعملية التعليمية التعلمية؛ المعلم والمتعلم، فراعى للمعلم والمتعلم حاجياتهما المادية، فعلق الاكتفاء بما يغنيهما عن كلف الطلب، لكي لا يتكلفا عناء المعاش، ومشاق طلبه، وأفراد سبيلا لكسبه، فيكون التعليم والتعلم مسلك كسبه وسبب اكتفائهما، وغاية التفرغ له.

وراعى الجانب السلوكي للمعلم، ولما لسلوك المعلم من أثر نفسي على المتعلم، فكان ظفر المتعلم بمعلم سمح بعلمه، حليم في تعامله؛ لمن ركائز الاستقرار النفسي للمتعلم وذلك في شرطه التاسع.

ثم راعى للمتعلم عدة جوانب بيولوجية وسيكولوجية، حيث صدر نصه بما هو نقطة تشريف وتكليف، وأداة تعلم وتعليم، وسيلة تقوى وتنمو بالاستعمال، وتضعف وتحفى بالوهن والكسل، فجعلها مرقاة السمو في العلوم وأداة الاكتساب والاستعاب، فقسمه في كتابه “آداب الدنيا والدين” إلى عقل غريزي ومكتسب، فكان الأول ما جعل الإنسان إنسانا والحيوان حيوانا، وكان الثاني من جعل العالم عالما والجاهل جاهلا، ثم ثنى بمجهر العلوم وكاشفت الغموض وهاتكة الحجب عن المضمر وهي الفطنة، ليثلث بأداة جوهرية تعين المتعلم على قدرة التكيف مع مختلف الوضعيات المستجدة والمستحدثة في حياته وهي الذكاء، ثم ضمن نصه ما يضمن استمرارية حصول التعلم ويدفع الكلل والملل، ويبعث لدى المتعلمين الحيوية والنشاط الذي يدفع بهم إلى الجد والمثابرة لاكتساب التعلمات، والفراغ وعدم شغل المتعلم بغير التعلم، والسلامة من العوارض البيولوجية كالأمراض وغيرها، والسيكولوجية كالهموم.

ويمكن تقسيم هذه الشروط والعناصر إلى ثلاث وحدات كبرى:

  • الوحد السيكولوجية: وفيها العقل، والفطنة، والذكاء، والشهوة.
  • الوحدة الاجتماعية: وفيها الاكتفاء، والفراغ.
  • الوحدة التربوية والبيداغوجية: وفيها اتساع المدة، والظفر بمعلم سمح.

وهي شروط لم يكن الامام الماوردي رحمه الله الوحيد من تفطن اليها من علمائنا المسلمين، بل نجد معظم المفكرين التربويين المسلمين قد اشاروا إلى بعض هذه العناصر، فهذا الإمام الزرنوجي يشير إلى ضرورة التركيز على لذة العلم التي هي من دواعي تحصيله، وهذا الامام القابسي رحمه الله -403- يشير إلى ضرورة التفرغ للتعلم وعدم الانصراف إلى غيره، والرفق بالمتعلمين، وعلى المعلم ان يكون هاشا باشا في تعليمه وان اظهر الغضب على المقصر، وهو عينه ما دعا إليه الإمام الغزالي رحمه الله -505- الشفق على المتعلمين وإلا ينتقل من فن إلى فن حتى يتقن الفن الأول، وهذا ابن خلدون رحمه الله -808- يجعل التدرج في التدريس للوصول إلى الكمال من الوسائل المعينة على ذلك إلى غير ذلك من أراء إعلام التربية في الفكر التربوي الإسلامي.

إن كان هذا ما نادى به الإمام الماوردي في القرن الرابع الهجري في مجال التربية، واعتمده في تربيته للناشئة، وفي تعليمه، ونادى بمراعاته في التعلم، وهو عينه ما سيتبين لبعض المدارس الحديثة في علم النفس التربوي، وستلهث إليه مدارسنا لتطبيقه مع أن علماءنا قد أصلوا له منذ قرون، فإلى أي حد يتم مراعاة هذه العناصر في مدارسنا الحالية؟

أليس ما نادى به أمامنا رحمه الله في القرن الرابع الهجري، هو عينه ما تمخض عن مدارس علم النفس التربوي حديثا؟

إذا كانت المقاربة بالكفايات جاءت لتعتبر المتعلم هو محور العملية التعليمية التعلمية، أليس هو عينه ما توحيه إلينا هاته العناصر المتضمنة في النص؟ أليست جل عناصره متعلقة بالمتعلم لا المعلم؟

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M