الدروس والعبر من إنفاذ الصِّدِّيق جيش أسامة

12 أبريل 2019 16:53
أعظم مفاخر عثمان جمعُ الأمَّة على مصحفٍ واحدٍ

هوية بريس – د. علي محمَّد الصَّلابي

كان أول قرار يتخذه أبو بكر الصديق رضي الله عنه في الخلافة، هو قرار إنفاذ بعث أسامة بن زيد، وكان قد أنفذ هذا البعث ليحارب الرومان وقبائل قضاعة الموجودة في شمال الجزيرة العربية، وقد أشار بعض الصحابة على أبي بكر بأن لا ينفذ بعث أسامة ويظل هذا الجيش في المدينة ليحميها من المتربصين بها.

ومع ذلك أصر أبوبكر أن يُنفذ هــــذا الجيــش مع كــل مــا يحيــــط بالمسلـمـيــن مــن خـطــــــورة، واختلف معه بعض الصحابـــــــــــة، وكلمـــــــوه فـــــي ذلك، فقـــــــال لهم كلمــــــــــة تسجـــــل بحــــروف من نــور: “والله لا أحل عقدة عقدها رســـــــــول الله (ص)، ولو أن الطير تخطفنا،  والسبـاع من حول المدينـــــة، ولو أن الكلاب جرت بأرجل أمهات المؤمنين لأجهزن جيــش أسامــة“. ومن أهمِّ الدروس، والعبر، والفوائد من إنفاذ الصِّدِّيق جيش أسامة:

1- الأحوال تتغيَّر، وتتبدَّل، والشَّدائد لا تشغل أهل الإيمان عن أمر الدِّين:

ما أشدَّ التَّحوُّل، وأختره! وما أسرعه كذلك! سبحان الله الذي يقلب الأحوال كيفما يشاء: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ *}[البروج: 16] {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}. تأتي وفود العرب مذعنةً منقادةً مطيعةً وبهذه الكثرة، حتى سمِّي العام التاسع عام الوفود، ثمَّ تتقلَّب الأحوال، فيخشى من أن تأتي القبائل العربيَّة للإغارة على المدينة المنورة عاصمة الإسلام، بل قد جاءت للإغارة للقضاء ـ على حسب زعمها الباطل ـ على الإسلام والمسلمين، ولا غرابة في هذا فإنَّ من سنن الله الثابتة في الأمم أنَّ أيامها لا تبقى ثابتةً على حالةٍ، بل تتغيَّر، وتتبدَّل، وقد أَخبر بذلك الذي يقلِّب الأيّام وَيصرفها عزَّ وجلَّ بقوله: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}[آل عمران: 140].

فالصِّدِّيق يعلِّم الأمَّة إذا نزلت بها الشِّدَّة، وألمَّت بها المصيبة أن تصبر، فالنَّصر مع الصَّبر، وألا تيأس ولا تقنط من رحمة الله: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56].

ومن الدُّروس المستفادة من بعث جيش أسامة: أنَّ الشدائد، والمصائب مهما عظمت، وكبرت لا تشغل أهل الإيمان عن أمر الدِّين. إنَّ وفاة الرسول الكريم (ص) لم تشغل الصِّدِّيق عن أمر الدِّين. وأمر ببعث أسامة في ظروف كالحة مظلمة بالنِّسبة للمسلمين ولكن ما تعلَّمه الصِّدِّيق من رسول الله من الاهتمام بأمر الدِّين مقدَّم على كلِّ شيءٍ، وبقي هذا الأمر حتى ارتحل من هذه الدُّنيا.

2- المسيرة الدَّعوية لا ترتبط بأحدٍ، ووجوب اتِّباع النبيِّ (ص):

في قصَّة إنفاذ أبي بكرٍ الصِّدِّيق جيش أسامة ـ رضي الله عنهما ـ نجد أنَّ الصِّدِّيق -رضي الله عنه- بيَّن بقوله وعمله: أنَّ مسيرة الدَّعوة لم ولن تتوقَّف حتى بموت سيِّد الخلق، وإمام الأنبياء (ص)، وأثبتَ مواصلةَ العمل الدَّعويِّ بالمبادرة إلى إنفاذ هذا الجيش.

ومن الدروس المستفادة من قصَّة إنفاذ الصِّدِّيق جيش أسامة ـ رضي الله عنهما ـ أنَّه يجب على المسلمين اتِّباع أمر النبيِّ (ص) في السَّرَّاء، والضَّرَّاء، فقد بيَّن الصِّدِّيق من فعله: أنَّه عاضٌّ على أوامر النبيِّ (ص) بالنواجذ، ومنفِّذُها مهما كثرت المخاوف، واشتدَّت المخاطر.

وظهرت عناية أبي بكرٍ الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ بالاقتداء بالرَّسول الكريم (ص) أيضاً في قيامه بتوصية الجيش عند توديعهم، حيث كان رسول الله (ص) يوصي الجيوش عند توديعهم، ولم يقتصر الصِّدِّيق على هذا، بل إنَّ معظم ما جاء في وصيته لجيش أسامة كان مقتبساً من وصايا النبيِّ (ص) للجيوش.

ولم يقف أبو بكرٍ الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ في الاقتداء بالرَّسول الكريم (ص) فيما قاله، وفعله فحسب، بل أمر أمير الجيش أسامة ـ رضي الله عنه ـ بتنفيذ أمره (ص)، ونهاه عن التَّقصير فيه، فقد قال له رضي الله عنهما: اصنع ما أمرك به نبيُّ الله (ص)، اِبدأ ببلاد قضاعة، ثم إيت ابل، ولا تقصرنَّ شيئاً من أمر رسول الله (ص).

وهكذا نرى: أنَّ الله تعالى قد ربط نصر الأمة، وعزَّها باتِّباع النبيِّ الكريم (ص)، فمن أطاعه؛ فله النَّصر، والتَّمكين، ومن عصاه؛ فله الذُّلُّ، والهوان، فسرُّ حياة الأمَّة في طاعتها لربِّها واقتدائها بسنَّة نبيِّها (ص).

3- حدوث الخلاف بين المؤمنين، وردُّه إلى الكتاب والسُّنَّة:

وممّا نستفيد من هذه القصَّة: أنَّه قد يحدث الخلاف بين المؤمنين الصَّادقين حول بعض الأمور، فقد اختلفت الآراء حول إنفاذ جيش أسامة ـ رضي الله عنه ـ في تلك الظروف الصَّعبة، وقد تعدَّدت الأقوال حول إمارته، ولم يجرَّهم الخلاف في الرأي إلى التَّباغض، والتَّشاجر، والتَّدابر، والتَّقاطع، والتَّقاتل، ولم يصرَّ أحدٌ على رأي بعد وضوح فساده، وبطلانه، وعندما ردَّ الصِّدِّيق الخلاف إلى ما ثبت من أمر النبيِّ (ص) ببعث أسامة، وبيَّن رضي الله عنه: أنَّه ما كان ليفرِّط فيما أمر به رسول الله (ص) مهما تغيَّرت الأحوال، وتبدَّلت؛ استجاب بقيَّة الصَّحابة لحكم النبيِّ (ص) بعدما وضَّحه لهم الصِّدِّيق.

فخلاصة الكلام: أنَّ ممّا نستقيده من قصَّة تنفيذ الصِّدِّيق جيش أسامة ـ رضي الله عنهما ـ أنَّ تأييد الكثرة لرأيٍ ليس دليلاً على إصابته، وممّا يستفاد من هذه القصَّة انقياد المؤمنين، وخضوعهم للحقِّ إذا اتَّضح لهم، فعندما ذكَّرهم الصِّدِّيق أنَّ النبيَّ (ص) قد أمر بتنفيذ جيش أسامة، وهو الذي عيَّن أسامة أميراً على الجيش؛ إنقاد أولئك الأبرار للأمر النبويِّ الكريم.

4- جعل الدَّعوة مقرونةً بالعمل، ومكانة الشَّباب في خدمة الإسلام:

ممّا يتجلَّى في هذه القصَّة منزلة الشباب العظيمة في خدمة الإسلام، فقد عيَّن رسول الله (ص) الشَّابَّ أسامة بن زيد ـ رضي الله عنهما ـ أميراً على الجيش المعدِّ لقتال الرُّوم ـ القوة العظيمة في زعم الناس في ذلك الوقت ـ وكان عمره آنذاك عشرين سنةً، أو ثماني عشرة سنةً، وأقرَّه أبو بكرٍ الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ على منصبه رغم انتقاد الناس، وعاد الأمير الشَّابُّ بفضل الله تعالى من مهمَّته التي أُسندت إليه غانماً ظافراً.

وفي هذا توجيهٌ للشَّباب في معرفة مكانتهم في خدمة الإسلام، ولو نعيد النَّظر في تاريخ الدعوة الإسلامية في المرحلتين المكِّيَّة، والمدنيَّة؛ لوجدنا شواهد كثيرةً تدلُّ على ما قام به شباب الإسلام في خدمة القران والسُّنَّة، وإدارة أمور الدَّولة، والمشاركة في الجهاد في سبيل الله، والدَّعوة إلى الله تعالى.

5- صورة مشرقة من آداب الجهاد في الإسلام:

تقدِّم لنا هذه القصة صورةً مشرقةً للجهاد الإسلامي، وقد تجلَّت تلك الصُّورة في وصيَّة أبي بكرٍ الصِّدِّيق لجيش أسامة عند توديعه إيّاهم، ولم يكن الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ في وصاياه للجيوش إلا مستناً بسنَّة المصطفى (ص)، حيث كان عليه الصلاة والسلام يوصي الأمراء والجيوش عند توديعهم، ومن خلال فقرات الوصيَّة التي جاءت في البحث تظهر الغاية من حروب المسلمين، فهي دعوةٌ إلى الإسلام، فإذا ما رأت الشُّعوب جيشاً يلتزم بهذه الوصايا لا تملك إلا الدُّخول في دين الله طواعيةً واختياراً.

6- أثر جيش أسامة على هيبة الدَّولة الإسلاميَّة:

عاد جيش أسامة ظافراً غانماً بعدما أرهب الرُّوم حتى قال لهم هرقل وهو بحمص بعدما جمع بطارقته: هذا الذي حذرتكم، فأبيتم أن تقبلوا منِّي!! قد صارت العرب تأتي مسيرة شهرٍ، فتغير عليكم، ثمَّ تخرج من ساعتها، ولم تكْلَمْ. وقد أصاب القبائل العربيَّة في الشمال الرُّعب، والفزع من سطوة الدَّولة، وعندما بلغ جيش أسامة الظَّافر إلى المدينة تلقّاه أبو بكرٍ، وكان قد خرج في جماعةٍ من كبار المهاجرين، والأنصار للقائه، وكلُّهم خرج، وتهلَّل، وتلقَّاه أهل المدينة بالإعجاب، والسُّرور، والتَّقدير، ودخل أسامة المدينة، وقصد مسجد رسول الله (ص) وصلَّى لله شكراً على ما أنعم به عليه وعلى المسلمين .

وكان لهذه الغزوة أثرٌ في حياة المسلمين، وفي حياة العرب؛ الذين فكَّروا في الثورة عليهم، وفي حياة الرُّوم؛ الذين تمتدُّ بلادهم على حدودهم، فقد فعل هذا الجيش بسمعته ما لم يفعله بقوَّته، وعدده، فأحجم من المرتدِّين من أقدم، وتفرَّق من اجتمع، وهادن المسلمين مَنْ أوشك أن ينقلب عليهم، وصنعت الهيبة صنيعها قبل أن يصنع الرِّجال، وقبل أن يصنع السِّلاح.

مراجع البحث:

  1. علي محمّد محمَّد الصَّلاَّبي، الانشراح ورفع الضيق في سيرة أبوبكر الصديق، شخصيته وعصره، دار ابن كثير، دمشق، (ص:167-174).
  2. ابن الأثير، الكامل في التاريخ، تحقيق على شيري، دار إِحياء التراث العربي، بيروت، الطَّبعة الأولى 1408ه ـ 1989م، (2/227).
  3. ابن حجر العسقلاني، فتح الباري شرح صحيح البخاري، تحقيق الأستاذ محب الدين الخطيب، دار الريان، القاهرة، ط1، 1983م، (8/146).
  4. د. فضل إلهي، قصَّة بعث جيش أسامة، دار ابن حزم، بيروت، الطَّبعة الثَّانية 1420ه – 2000م، ص:18، 32، 39، 46، 70، 81.
  5. محمَّد بن عمر بن واقد، المغازي، تح: ماردنجوشن، عالم الكتب بيروت، الطَّبعة الثالثة 1404هـ 1984م. (3/1124).
  6. محمَّد حسين هيكل، الصِّدِّيق أبوبكر، دار المعارف بمصر ط1971م ،ص 107.
  7. مسلم، صحيح مسلم، تحقيق محمَّد فؤاد عبد الباقي، دار إِحياء التراث العربي، بيروت لبنان، الطَّبعة الثانية 1972م، (4/2295).
  8. يسري محمَّد هاني، تاريخ الدَّعوة إِلى الإِسلام في عهد الخلفاء الرَّاشدين، جامعة أمِّ القرى، معهد البحوث العلميَّة، وإِحياء التراث، الطَّبعة الأولى 1418ه، ص270.
آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M