العنف ضد الأصول والفروع الواقع والمتوقع والحلول

19 أكتوبر 2021 12:22

هوية بريس- د.الحسين الموس

أولا العنف والأصول والفروع لغة واصطلاحا:

العنف لغة الشدة والقوة، وكل ما يفيد عدم الرحمة والشفقة والرفق. قال ابن منظور:” العُنْف الخُرْقُ بالأَمر وقلّة الرِّفْق به وهو ضد الرفق وكلُّ ما في الرفق من الخير ففي العنف من الشرّ مثله وأكثر. ويقال اعتنفت الشيء إذا كرهته (ابن منظور) ومن ثم فالكراهة تؤدي إلى العنف… ويطلق العنف على الجور وعدم القصد والاقتصاد في الأمور فيقال: ” طريق مُعْتَنِفٌ أَي غيرُ قاصِدٍ .  وللعنف أيضا صلة بالعنت الذي هو إدخال المَشَقَّةِ والشدة على الإِنسان. وربط ابن منظور بين العنت والعنف فقال: ” يقال أَعْنَتَ الجابرُ الكَسِيرَ إِذا لم يَرْفُقْ به فزاد الكسر فسادا، وأعنت الرجل الدابة  إِذا حَمَلَها على ما لا تحْتَمِلُه من العُنْفِ”. وعُرف العنف في المعجم لاروس بأنه: ”  خاصية وميزة، لكل ما هو عدواني ، و ينتج عنه مفعول بالقوة..

وفي المتداول اليومي يطلق العنف على الاستعمال المفرط للقوة ضد من هو ضعيف وعاجز عن الرد بالمثل .  ويمكن تعريفه أنه :” كل قول أو فعل مسيء يصدر من شخص ما ، قصد إلحاق الضرر والأذى بشخص آخر، لإرضاء رغبة ،أو إشباع غريزة بدافع مادي ،أو نفسي، أو سياسي أو اجتماعي“. ومن مشمولات العنف ما يقع داخل الأسرة، كالعنف بين الزوجين، والعنف مع الفروع أو الأصول، وهو ما نسعى للوقوف عنده في هذا المبحث.

وإذا كان العنف ضد الأصول والفروع – في تقديري-  لم يصل في بلدنا بعد إلى مرتبة الظاهرة، لأنه مازال محتشما وضمن حالات شاذة عن قيم وأخلاقيات المجتمع المغربي، لكنه في تزايد مستمر ينذر بالخطر إن لم تتم محاصرته وتطويقه.

وقد ركزت جل المنظمات الحقوقية، سواء منها المحلية، أو الدولية على العنف ضد المرأة، والطفل. ولم ينل العنف ضد الأصول ما ينبغي من العناية رغم أننا نسمع ونقرأ يوميا، عن ضرب ابن لأمه العجوز حتى الموت أو إلقائها بالشارع ، أو التخلص من الوالدين بطرق مهينة ، ناهيك عن الشتم، والسب. ولازالت المعطيات الإحصائية عن العنف ضد الأصول قليلة في وطننا المغرب، وإن احتل إعلاميا موقعا في الإعلام الرقمي والورقي.

 

ثانيا المقاربة الدينية لمسألة العنف ضد الأصول والفروع:

  • العنف مع الفروع :

إن الأصل في الفطرة السوية أن يكون بها من الحنان والعطف ما يجعلها تحرص على أمن أبنائها، وتحميهم من كل أذى فضلا عن مجرد التفكير أو التلويح  في تعنيفهم. روى البخاري  ومسلم عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – : قال: « قُدِمَ على رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- بِسَبْيٍ ، فَإِذا امرأةٌ مِن السَّبْيِ تَسعى ، [قد تَحَلَّبَ ثَديُها] ، إِذا وجدت صَبيا في السَّبي أَخَذَتْه ، فألْزَقَتْه ببطنها فأرضعتْه ، فقال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- : أَتَرَونَ هذه المرأَةَ طارِحَة ولدها في النار؟ قلنا: لا والله ، فقال [ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-] : الله أرحَمُ بعباده من هذه المرأة بوَلَدِها». وهناك قصة شبيهة بهذه رواها أحمد والحاكم من حديث أنس قال مر النبي صلى الله عليه و سلم في نفر من أصحابه وصبي على الطريق فلما رأت أمه القوم خشيت على ولدها أن يوطأ فأقبلت تسعى وتقول ابني ابني وسعت فأخذته فقال القوم يا رسول الله ما كانت هذه لتلقى ابنها في النار فقال ولا الله بطارح حبيبه في النار”. فكيف نتصور أن يقدم الأب أو الأم على تعنيف ولده، والقسوة عليه وحرمانه من أبسط حقوقه المادية والمعنوية؟

إن تجليات الفطرة السليمة في الرفق والعناية بالصغار من الفروع غير خاصة بالإنسان، بل نجدها في عالم الحيوان والطير أيضا. ونظرا لعمق الدافع الجبلي في الرفق والعناية بالأبناء فإن الوصية في القرآن غالبا ما تتجه نحو الأصول وليس الفروع.

إن السيرة النبوية وتوجيهات النبي الكريم لأصحابه تزخر بالكثير من النصوص التي تدعو إلى الرفق مع الفروع خاصة الصغار والضعاف. روى مسلم عن عائشة – رضي الله عنها – قالت : « مَا ضَرَبَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم– شيئا قط بيده ، ولا امرأة ولا خادما ، إِلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نِيلَ منه شيء قطّ فينتقم من صاحبه ، إِلا أن ينتهك شيء من محارم الله فينتقم ». فهو عليه السلام كان رفيق بالصغار وبالنساء والخدم أيضا، وكان عليه السلام لا ينتقم لنفسه قط، ونعلم أن الانتقام للنفس من أسباب العنف ضد الغير. وروى البيهقي في شعب الإيمان عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ” إن الله رفيق يحب الرفق و يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف“. و يقول : “خذوا بالناس ما تيسر.”

إن بعض الآباء والأمهات يعتقدون أن القسوة والتعنيف قد تحمي الأطفال، أو تحفزهم على مزيد من العناية بدراستهم، لكل الواقع العملي يشهد أن العنف خاصة مع المراهقين لا يزيدهم إلا نفورا وعنادا، بينما الرفق والحوار يسهم في رفع معنوياتهم والتأثير عليهم. وفي السيرة النبوية قصة الشاب الذي جاء يطلب الإذن بالزنا فلم يعنفه النبي عليه السلام ، بل أجلسه وحاوره إلى أن اقتنع بأن الزنا لا يليق به.

  • العنف مع الأصول

أما بخصوص العنف مع الأصول، فهو سلوك طارئ وغريب عن قيم ديننا، وعن التقاليد التي عاشها الشعب المغربي وتربى في ظلالها. إن القرآن الكريم مليء بالوصية بالوالدين وبالأمر بالإحسان إليهما، كما حرم الحق سبحانه كل قول خشن لا يليق بمقامهما فكيف بالتعنيف أو الضرب أو القتل. قال الله تعالى: {وقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا } [الإسراء: 23، 24].  وجعلت السنة النبوية عقوق الوالدين والإساءة إليهما من الكبائر. روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – :قال : « ذكر رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- الكبائر ، فقال : الشركُ بالله ، وعقوقُ الوالدين ، وقتلُ النفس». وتضمن التراث الشفهي عند المسلمين عامة، والمغاربة خاصة ما يتضمن التحذير الشديد من الإساءة إلى الوالدين أو تعنيفهما، كما جعل برهما والإحسان إليهما مصدر الرزق والخيرات. ولهذا التراث الشفهي أصول من قصص السنة النبوية مثل قصة جريج العابد الذي تأخر فقط في إجابة أمه وهي تناديه فاستجاب الله دعاءها عليه وعوقب بتهم كادت أن تودي بحياته لولا لطف الله به لعبادته وصلاحه[1].

ثالثا بعض أسباب العنف ضد الأصول والفروع

إذا أردنا تأمين الأسرة المغربية، وإبعادها عن ويلات العنف الذي بدأ يتزايد في حق الأصول أو الفروع فإنه لابد من البحث عن أسبابه، وعن كيفية محاصرتها وإبعادها، وهو ما نحاول بسط بعضه في الفقرة الموالية:

  • سوء التربية الأخلاقية والدينية

إن أول سبب للعنف في حق القرابة عامة، والوالدين والأبناء خاصة، هو سوء التربية الدينية، بحيث يكبر الفرد في أسرته وهو يتغذى من العنف وسوء الخلق، وعدم توقير الكبار، ولا الشفقة والرحمة بالصغار. ومن ثم لابد من جهد كبير في  نشر قيم الدين التي تدعو إلى الرحمة والشفقة بالوالدين، وكذلك تلك التي تنمي بر الوالدين والإحسان إليهما. ويكون ذلك من خلال التوجيه التربوي لمؤسسة المسجد، وغرس القيم من خلال المؤسسات التربوية، ثم أيضا من خلال الدور الإعلامي والفني الذي قد يكون له تأثير أبلغ من تأثير الوعظ المباشر. فقصة جريج مثلا لو وضع لها سيناريو وقام بتمثيلها بعض مشاهير السينما لكان لها تأثير كبير على الناشئة.

  • الجور من أسباب توليد العنف ضد الأصول أو الفروع:

من الأسباب المؤدية إلى العنف في حق الأصول خاصة والفروع أحيانا وقوع الانسان في معصية الجور والظلم. فالظلم لا تقبله  النفوس، والمظلوم ينتظر منه كل شيء. وكثير من مظاهر العنف المسجلة في هذا الإطار سببها التقصير في العدل المأمور به شرعا.

فما ذا يُنتظر من مراهق يشعر أن والديه يفضلان إخوته عليه ويقدمانهم في كل شيء. أو من أب مورس عليه الظلم في العمل وأهدرت كرامته، ولم يتلقى التربية الدينية الصحيحة إلا أن يفجر غضبه والعنف الذي مورس عليه في زوجته وأبنائه. لقد كان النبي عليه السلام حريضا على توجيه الآباء إلى العدل بين الأبناء، الذي يثمر برا ومودة وإحسانا . روى البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير – رضي الله عنهما – قال: « إِن أباهُ أتى به رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-. فقال: إِني نَحَلْتُ[2] ابني هذا غُلاما كان لي. فقال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- : أكلَّ ولدك نحلته مثل هذا ؟ فقال: لا ، فقال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- : فارجعْهُ » .وفي رواية قال: « تَصَدَّقَ عَليَّ أبي ببعض ماله ، فقالت أُمِّي عَمْرَةُ بنتُ رواحة : لا أرضى حتى تُشْهِدَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. فانطلق أبي إِلى النبي لِيُشهده على صدقتي. فقال له رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- : أفعلتَ هذا بِوَلَدِكَ كُلِّهِم ؟ قال: لا ، قال: اتقوا الله ، واعْدِلُوا في أولادكم ، فرجع أبي، فَرَدَّ تلك الصدقة ».  وفي رواية أخرى: « أَلَيْسَ يَسُرُّكَ أن يكونوا لك في البر واللطف سواء ؟ قال: نعم. قال: فأشهد على هذا غيري ».

  • انتشار المخدرات والمسكرات:

من الأسباب الكبرى لانتشار العنف في حق الأصول والفروع شيوع وانتشار المخدرات بين أفراد المجتمع، فماذا ينتظر من شاب فقد عقله بالمسكر إلا أن يفعل كل سوء وتعنيف مع والديه خاصة عند ضغط الحاجة إلى المال لشراء المخدر أو لقضاء بعض المآرب الأخرى، وهو حين يعنف وقد يقتل لا يُقدر خطورة جريمته وفعلته. ويمكن أيضا أن يقع العنف من الأصول في حق الفروع عند تعاطيهم للمسكرات ودخولهم في حالة هستيرية إلى البيت، فلا يجدون إلى الزوجة الضعيفة أو الابن الصغير فيشبعونهم ضربا وتعنيفا. ومن ثم للقضاء على العنف لابد من محاصرة انتشار المخدرات والمسكرات في المجتمع، والتشديد على مروجيها.

 

 

[1]  روى البخاري عن أبي هريرة – رضي الله عنه – :أنّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال : « لم يتكلَّمْ في المهد إِلا ثلاثة ” وذكر منهم ” …صاحب جُرَيج ، وكان جريجُ رَجُلا عابدا، فاتخذ صومعة ، فكان فيها ، فأتته أُمُّهُ وهو يصلّي، فقالت: يا جريج ، فقال: يا ربِّ، أُمِّي وصلاتي، فأقبل على صَلاتِهِ ، فانْصَرَفَتْ ، فلما كان من الغَدِ ، أتته وهو يُصَلِّي، فقالتْ : يا جريج ، فقال: يا ربِّ ، أُمِّي ، وصلاتي، فأقبل على صلاتِهِ، [فانصرفَتْ]،فلما كان من الغَدِ أتته وهو يصلِّي. فقالت : يا جريج ، فقال : يا ربِّ ، أُمي وصلاتي، فأقبل على صلاته ، فقالت: اللهمَّ لا تُمِتْهُ حتى ينظرَ إِلى وجوهِ المومِسات ، فتذاكر بنو إِسرائيل جريجا وعبادَتَه وكانت امرأة بغيّ يتمثَّل بحسنها ، فقالت : إِن شئتم لأَفْتِنَنَّهُ [لكم] ، قال: فتعرَّضَتْ له ، فلم يَلْتَفِتْ إِليها ، فأتت رَاعيا كان يأوي إِلى صومعتِهِ ، فأمكنَتْهُ من نفسها ، فوقع عليها ، فَحَمَلَتْ ، فلما وَلَدَتْ ، قالت : هُوَ مِنْ جُرَيج ، فأَتَوْهُ ، فاستنزلوه ، وهدَمُوا صومَعَتَهُ ، وجعلوا يضربونه ، فقال : ما شأنُكم ؟ قالوا : زنيتَ بهذه البغيِّ ، فَوَلَدَتْ منك ، فقال: أين الصبيُّ؟ فجاؤوا به ، فقال : دَعُوني أُصَلِّي ، فصلَّى ، فلما انصرف أتى الصبيُّ فطعنَ في بطنه، وقال: يا غُلام ، مَنْ أبوك ؟ فقال : فلانُ الراعي، قال : فأقبلوا على جريج يُقبِّلونه ، ويتمَسَّحُون به ، وقالوا : نبني صومعتَكَ من ذَهَب ، قال : لا ، أعيدوها من لَبِن كما كانت ، ففعلوا…”

[2]  نحلت بمعنى وهبت وأعطيت

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M