تحليل.. جائحة كورونا وضرورة تجديد أسس الاقتصاد العالمي

28 مارس 2020 11:01
نزيف الخسائر يجتاح أسواق السلع والمال العالمية

هوية بريس – د. نوفل الناصري

(خبير اقتصادي وباحث في السياسات العمومية)

تقديم

يعيش العالم أجمع حالة من الصدمة والهلع بسبب تفشي فيروس كورونا وانتشاره في 200 دولة وإصابته لأزيد من 470 ألف شخص وأودى بحياة أزيد من 21 ألف إلى حدود كتابة هذه الأسطر. وأدى عَدَمُ التوصل لحد الآن للقاح له إلى تراجع في الإنتاج العالمي، وانخفاض حاد في الاستهلاك، وتعطيل لمناحي الحياة وانتكاسة في مختلف القطاعات الاقتصادية (خصوصا الخدمات والسياحة والسفر والصناعة والنفط) وإلى تراجع قياسي للنشاط الاقتصادي بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ ما بعد الحرب العالمية الثانية، وفي هذا المقال سنتطرق لأبرز تداعيات هذا الفيروس على المنظومة الاقتصادية والمالية العالمية، مع اقتراح بعض التوصيات التي ينبغي على المنتظم الدولي وكل دولةاتخاذها من أجل محاصرة كورونا وتدارك خسائره المدمرة.

1. فيروس كورونا واضطراب الاقتصاد العالمي

وصل العالم إلى حالة من عدم اليقين يسميهاالاقتصاديونعدم اليقين الراديكالي، فلم يشهد العالم يومًا مثل هذه التداعيات الاقتصادية والمالية المتسارعة مع أزمة صحية عالمية تؤدي إلى حصر مناطق ودول بأكملها. الاشكال الأكبر في هذه الازمة العالمية الحالية، هي عدم قدرة صناع القرار بشكل عام والاقتصاديين بشكل خاص على التنبؤ بحركية البورصات وتوقع الخسائر المالية التي يمكن أن يسببها انتشار هذا الفيروس، خصوصا وأنه تسبب وفي وقت وجيز في تغيير المبادئ والمنطلقات الاقتصادية والأسس والقواعد النقدية والمالية وأدى إلى فك الترابطات التي كانت تميز النظام المالي الدولي، وأزال حالات الاستقرار النسبي للاقتصاد العالمي، وظهرت بذلك أعراض مرضية جديدة عمَّت غالبية الاقتصادات. وتكمن أبرز هذه الأعراض في عدم استجابة الاسواق الماليةللإجراءات التحفيزية التي اتخذتها الحكومات والأبناك المركزية وأصحاب القرار في مواجهة تداعياته الاقتصادية وآثاره المالية، وعدم انعكاس سياسات التيسير الكمي التي اتخذتها غالبية الدول الاقتصادية الكبرى على أداء أسواقها، بل لم تستوعبها البورصات وأستمر النزيف فيها لعدة أسابيع.

2. نزيف البورصات العالمية هو الأسوأ منذ الأزمة المالية عام 2008

أكملت بورصات العالم تعاملاتها بداية هذا الاسبوع 22 مارس 2020 على انخفاض عام وشامل، حيث تراجعت كل من الأسوق الخليج والآسيوية والأوروبية، في حين سجلت الأسهم الأميركية تراجعا حادا في مستهل تعاملاتها. وفي هذا الصدد، تراجع مؤشر أبو ظبيبنسبة 3.1 % وانخفض المؤشر العام السعودي ب2.9%، في حين هوى مؤشر بورصة قطر ب 3.9% وبورصة البحرين ب 0.4%. كما أغلق مؤشر ستوكس 600 الأوروبي بانخفاض يقدر ب4.3، متبوعا  بتراجع بورصة لندن ب 7٪، وهبوط مؤشر كاك 40 في باريس بشكل حاد هو الاسوأ منذ 2008 وصل ل 8.3٪ ، ونفس التراجع وسم بورصة فرانكفورت التي تراجعت ب 7.9٪ .

بدورها لم تسلم بورصة وول ستريت من هذا النزيف حيث تراجع مؤشر ناسداك بشكل غير مسبوق بنسبة6٪ ، الأمر الذي أدى تعليق التجارة لمدة ربع ساعة عند الافتتاح بهدف التخفيف من الذعر الذي أصاب البورصة؛ بالإضافة إلى ذلك شهد مؤشر FTSE وداو جونز الصناعي ونيكي انخفاضات هائلة منذ بدء تفشي المرض في 31 ديسمبر، وتعتبر الأدنى منذ عام 1987.وبهذا محا مؤشر داو جونز الصناعي وحده مكاسبثلاث سنوات في شهر واحد. وفي نفس السياق، عرفت بورصة هونغ كونغ تراجع مؤشر هانغ سينغ بنسبة 4.4%، وسجلت بورصة سنغافورة أيضا تراجعا بلغت نسبته 7.5%. وخسرت سيول 5.5%، وانخفض مؤشر شنغهاي المركب بنسبة 3.11% ، وتراجعت سوقالأسهم المحلية الهندية بأكثر من 11%.

3. خسائر صناديق التقاعد العامة وتدخلات الأبناك المركزية

تسببت هذه التحولات الكبيرة والمتسارعة في أسواق الأسهم إلى فقدان قيمة الأسهم العالمية ما يقارب 1.5 تريليون دولار نتيجة المخاوف المتزايدة من فيروس كورونا، مما أثر سلبا وبشكل مباشر على العديد من الاستثمارات في المعاشات التقاعدية وحسابات التوفير الفردية، فحسب تقارير وكالة التصنيفات الائتمانيةموديز فإن الصناديق تواجه خسائر استثمارية بنحو21% في المتوسط، وكمثال خسرت صناديق التقاعدالعامة الأميركية نحو تريليون دولار، وإذا لم يتم تعويضهذه الخسائر الاستثمارية فإن الحكومات قد تواجهزيادة بنحو 60% في مساهمات التقاعد للسنة المالية2021.

ولتدارك هذا التراجع في البورصات ووقف نزيفها، اتخذت الأبناك المركزية لأزيد من 50 دولة قرارا سريعابتخفيض سعر الفائدة الرئيسي (31 بنك مركزي في أسبوع واحد) لمستويات منخفضة والتي كان من المفترض أن تضخ سيولة مالية إضافية، وتجعل الاقتراض أرخص وتشجع الانفاق، غير أن عدم صدور أخبار مؤكدة عن قرب التوصل للقاح يقضي على فيروس كورونا وتعميم حالات الحجر الصحي لغالبية الدول المصابة والموبوءة وتراجع الانتاج فيها وخوف المواطنين جعل هذا الاجراء غير كاف وغير مجدي، ويبدو أن جل البورصات العالمية ستبقى مفتوحة على كل الاحتمالات بما فيها تلك الأكثر سوءا.

4. انتعاشه مالية مؤقتة بتكاليف تحفيزية باهظة

ورغم انتعاشة أسواق الأسهم الأوروبية وسوق وول ستريت بقوة وتحقيق مكاسب تجاوزت 11٪ عند إغلاق يوم الثلاثاء 24 مارس مباشرة بعد يوم واحد من خسائر غير مسبوقة- وذلك على خلفية لقاء الرئيس الامريكي ونائبه مع كبار مستثمري سوق الأسهم الأميركية لطمأنتهم والتعهد بمساعدتهم وعدم السماح بانهيار الشركات الامريكية الكبرى، وكذلك بفضل نجاح مجلس الشيوخ الأميركي في تمرير خطة البيت الأبيض لإنقاذ الاقتصاد بأكثر من تريليوني دولار، وذلك بإنشاء صندوق بقيمة خمس مئة مليار دولار لمساعدة الصناعات والولايات المتضررة بشدة من تداعيات فيروسكورونا. بالإضافة إلى إحداث صندوق بقيمة خمسين مليار دولار من الدعم لشركات الطيران، وتم تخصيص367 مليار دولار لتأمين القروض للشركات الصغيرة،و150 مليار دولار للمستشفيات والقطاع الصحي،و250 مليار دولار لتوسيع نطاق التأمين ضد البطالة، مع الاستعداد لتوجيه دعم مالي مباشرة للأسر الأميركية يُقدر ب 1200 دولار لكل راشد، و500 دولار لكل طفل وتأجيل الضرائب. وحسب المحللين الاقتصاديين وخبراء الاسواق المالية فإن هذا الرجوع السريع لن يكون إلا مرحليا ولن تدوم مكاسبه إلا أياما معدودة فقط، خصوصا بعد دخول منطقة الأورو في حالة طوارئ مالية ومرحلة الانكماش الاقتصادي.

5. تباطؤ التصنيع الصيني وتراجع الانتاج العالمي

في الصين، ومباشرة بعد ظهور فيروس كرورنا لأولمرة، انخفض الإنتاج الصناعي وتراجعت المبيعاتوتدنى الاستثمار في أول شهرين من هذه السنة،مقارنة بالفترة نفسها من عام 2019. وقد انخفضالنشاط الفعلي في الصين بمعدل قياسي في فبراير،وتراجع المؤشر الرسمي للنشاط الصناعي إلى 35.7٪ في فبراير مقابل 50 ٪ في يناير. وظهر التباطؤالصناعي في الصين واضحًا من الفضاء، حيث قالتوكالة ناسا إن الأقمار الصناعية لرصد التلوث رصدت انخفاضا كبيرا في ثاني أكسيد النيتروجين فوق البلاد. ووفقا لموقع بلومبرغ كانت المصانع الصينية تعمل بنسبة60 إلى 70 في المائة من طاقتها في نهاية فبراير،بينما تبلغ تقديرات بنك مورغان ستانلي، أن المصانع الصينية تعمل بما يتراوح بين 30 إلى 50 في المائة من طاقتها. ويدلُّ هذا المعدل إلى أن نمو الاقتصاد الصيني خلال النصف الأول من سنة 2020 سيعرف تراجعا لا محالة، حيث تراجعت الإيرادات المالية للحكومة الصينية بنسبة 9.9 ٪ في أول شهرين من 2020، وحسب وزارة المالية الصينية، فإن إجمالي الإيرادات حتى نهاية فبراير بلغ 496 مليار دولار، فيما تراجعت النفقات الحكومية بنسبة 2.9 ٪ ، إلى 456.3 مليار دولار حتى نهاية فبراير. وباعتبار أن الصين تشكل بمفردها ثلثالصناعة التحويلية على المستوى العالمي، وهي أكبرمصدر في العالم، فلقد أثر هذا التراجع على سلاسلالتوريد للشركات الكبرى العالمية المصنعة للمعداتالصناعية وصانعوا السيارات. وكشفت شركات دولية تعمل بنظام الدفع عن طريق بطاقات الائتمان، مثلأمريكان إكسبريس وفيزا وماستركارد، أن الأضرار التيسببها فيروس كورونا المستجد على الاقتصاد العالمي،بلغ ما بين 28-29 تريليون دولار

6. صناعة السياحة تهوي إلى أدنى مستوياتها

يعتبر قطاع السياحة من القطاعات التي تأثرت بشكلمباشر بفيروس كورونا، وبسبب سرعة انتشاره وخروجالأمور عن السيطرة وتوقف الرحلات وإقفال حدود الدولفيما بينها وارتفاع حالات الحجر الصحي لكل دولة علىحدة، توقف فعليا 70 ٪ من قطاع الضيافة حول العالموانخفضت صناعة السياحة إلى أدنى مستوياتهاالتاريخية، وحسب معهد منتدى السياحة العالمي فإنالخسائر الاقتصادية التي مني بها قطاع السياحةالعالمي لغاية الآن بلغ أزيد من 600 مليار دولار، ومنالمتوقع أن تصل الخسائر إلى تريليون دولار هذا العام،وستطال التشغيل في هذا القطاع، ومن المحتمل فقدان50 مليون وظيفة. وفي سياق متصل تم إغلاق العديدمن المراكز التجارية الكبرى والمطاعم وغيرها من مراكزالأنشطة الاجتماعية وجزء لا يُستهان به من الفنادق.

وأعرب خبراء صناعة السياحة في المملكة المتحدة عنمخاوفهم بشأن بقاء السياح الصينيين في منازلهم، حيث كانت هناك أزيد من 415000 زيارة من الصينإلى المملكة المتحدة في الأشهر الـ 12 من2019. ووفقًالموقع VisitBritain، فإن المسافرون الصينيون ينفقونثلاث مرات أكثر من متوسط انفاق السياح الذين يزورون بريطانيا تقريبا 1680 جنيهًا إسترلينيًا لكلسائح صيني.

7. قطاع الطيران الدولي، المتضرر الأكبر

بدورها باتت شركات الطيران حول العالم قاب قوسين أوأدنى من الإفلاس بسبب وقف أكثر من 90 في المائةمن حركة الطيران العالمية، ومن جانبها قدرت شركةالتحليلات ForwardKeys أن ما يصل إلى48200 رحلة مع 10.2 مليون مسافر ستلغي بسبببالحظر. وتوقعت الرابطة الدولية للنقل الجويإياتاأنتصل خسائر شركات الطيران حول العالم إلى 113 مليار دولار، كإحدى التبعات الاولى لتفشي فيروسكورونا. حيث تراجعت القدرة على العمل بالنسبة لجميع شركات الطيران بنسبة تصل إلى 80 في المائة، وفيمؤشر على الخسائر التي تتكبدها هذه الشركات،تراجعت أسهم مجموعة الخطوط الجوية الدولية بنسبة24 في المائة في بورصة لندن، وكذلك بالنسبة لشركةإيزيجيت بنسبة 23 في المائة، وراين إير بنسبة 19 في المائة. وبالموازاة مع ذلك، فإن هناك ضغوط ماليةوتشغيلية كبيرة تتعرض لها شركات الطيران، ولا سيماأن هناك نحو 2.7 مليون شخص يعمل فيها؛

وكتأثير مباشر لهذه التداعيات، انخفضت أسهم شركةبوينج بنسبة 44٪ الأسبوع الماضي، وقد يكون عملاقالطيران على وشك الانهيار، ولائحة الافلاس والانهيارات طويلة، ومن المتوقع حدوث كوارث في هذين القطاعين إذالم تتدخل الحكومات بشكل سريع لإنقاذهما ولتقديمالدعم اللازم لهما.

8. الخطر القادم: تهديد الأمن الغذائي العالمي

تسود حالة من القلق بسبب تهافت المواطنين -في حالة من الفزع الشديد- على شراء حاجياتهم الغذائيةومستلزماتهم المنزلية ومستحضرات التنظيف وورقالصحي وما رافق ذلك من فيديوهات وصور لتدافع وتشاجر العديد من الناس على اقتناء السلع، وشيوعمشاهد لرفوف المتاجر العالمية وهي خالية من البضائع، ويزداد الهلع مع انتشار أخبار لتوجه بعض الحكوماتلتقييد تدفق المواد الغذائية الأساسية الخاصة بهالتضمن لشعوبها كفايتهم في وقت يخضع نحو خمسسكان العالم لحالة عزل صحي مع إقفال الحدود بين الدول وقيود على الحركة والتنقل. فيتنام كثالث أكبرمصدر للأرز أوقفت التصدير، والهند دخلت لتوها في حالة إغلاق ستستمر ثلاثة أسابيع وتايلاند قد تعلنإجراءات مماثلة. وفي روسيا دعا اتحاد منتجي الزيوتالنباتية إلى تقييد بيع بذور دوار الشمس. وتباطأ إنتاجزيت النخيل في ماليزيا، ثاني أكبر منتج له.

هذا الارتباك في سلاسل الامداد العالمي وهذه التحركات الدولية وإن كانت معزولة وبحسن نيية فإنها تمثل تهديدا حقيقيا خطيرا على الامن الغذائي العالمي وعلى الاستقرار والسلم في  الدول وعلى نفسية مواطنيها، وتفقد الثقة أكثر في التعاون الدولي وفي مقدرة الاقتصاد العالمي على التضامن والتآزر وعلى تحقيق التوزيع العادل للثروة العالمية، خصوصا وأنه الانتاج العالمي المجمع من الأرز والقمح، سيسجل هذه السنة مستوى قياسياً عند 1.26 مليار طن، وذلك وفقا لبيانات وزارة الزراعة الأميركية، وتأكد العطيات أن هذاالإنتاج يمكنه بسهولة من تلبية احتياجات الاستهلاكالعالمي من المحصولين مع تحقيق مخزون في نهاية سنة 2020 يُقدر ب 470 مليون طن.  

9. انخفاض أسعار النفط: أدنى مستوى منذ حرب الخليج 1991

واصلت أسعار خام برنت التراجع بالموازاة مع اتخاذ الدول المزيد من الإجراءات لاحتواء تفشي فيروس كورونا عالميا، وبتراجع كافة قطاعات النشاط الاقتصادي العالمي، فإن الطلب على النفط تراجع بكل مهول وقد أعلنت وكالة الطاقة الدولية أن الطلب العالميعلى النفط انكمش بنحو 90 ألف برميل يوميًا هذه السنة ولأول مرة منذ عام 2009. وقد انخفضت أسعار النفط منذ 4 أسابيع على التوالي، وتراجعت نحو 60% منذ بداية سنة 2020 لسببن اثنين: تراجع الطلب بسبب فيروس كورونا وتداعيات الحرب على أسعار النفط التي اندلعت منذ ما يزيد عن الشهر بين روسيا والسعودية المنتجتين الرئيسين للخام. وهذا التراجع التاريخي للنفط مُنذر بانكماش الاقتصادي العالمي. ربما سيكون انهيار أسعار النفط في الأسواق العالمية خبر مفرحللغاية بالنسبة للمستهلكين، ولكنه ليس بالضرورة جيدبالنسبة للدول المصدرة له وللنشاط الصناعي والانتاجي العالمي، وتشير تقديرات البنك الدولي أن أنكل هبوط بعشرة بالمائة في أسعار النفط، سيقلص، فيالمتوسط، النمو لدى مصدري النفط بنسبة 0.6 بالمائة ويرفع العجز المالي الكلي بنسبة 0.8 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي.

10. آثار انتشار فيروس كرونا على النمو الاقتصادي العالمي

حذرت منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OECD)من خطورة تفشي فيروس كورونا والعجز الراهن عنمواجهته وتأثير ذلك على الاقتصاد الدولي، وتوقعت أن ينمو الاقتصاد العالمي بنسبة أقل من 2.4٪، وهو أدنى لمعدل النمو العالمي منذ سنة 2009، وأكدت على أن مواصلة تفشي هذا الوباء لفترة أطول وبكثافة أكبر يمكن أن يخفض النمو إلى 1.5٪ في سنة 2020. في المقابل وضع قسم العولمة والاستراتيجيات التنمويةبالأونكتاد سيناريوهات لتباطؤ النمو العالمي بسبب جائحة كورونا، ووجد أن العجز سيكون بمقدار 2 تريليون دولار في الدخل العالمي، و220 مليار دولار فيالدول الناميةباستثناء الصين وتوقع أنه في أسوأالسيناريوهات سينمو الاقتصاد العالمي بنسبة 0.5%،بمعنى خسائر مالية تُقدر بنحو 2 تريليون دولار. وفيدول مثل كندا والمكسيك وأميركا الوسطى، ودول مثلشرق وجنوب آسيا والاتحاد الأوروبي، فإنها سوفتشهد تباطؤا في النمو بين 0.7% و0.9%.  

11. كرورنا والرجوع إلى النموذج الكينزي للاقتصاد

الجميع تابع وبالمباشر كيف رجعت غالبية الدول للقيامبدورها ووظيفتها في إدارة الاقتصاد والتعليم والصحةبل وإدارة جل شؤون مؤسسات الدولة التي كانت في وقت جد قريب يتم بالتوافق مع توجيهات ومقترحات منظمات عالمية وشركات عملاقة ومؤسسات دولية وعلىراسها  صندوق النقد الدولي. ففي رمشة عين اتجهتدول عديدة بما فيها الولايات المتحدة الامريكية إلىالتدخل المباشر لإدارة شؤون البلاد على كافةالمستويات، سواء فيما يخص اتخاذ سياسات حمائيةأو استعادة بعض الأدوار التي منحت سابقا للقطاعالخاص، مثل قطاع الصحة الذي واجه ازمة كبيرة معانتشار وباء كرونا، والذي أثبت هذه الجائحة أنه لايمكن مواجهته وفق منطق وأسلوب القطاع الخاصوأصحاب رؤوس الأموال، ولكن وفق رؤية وطنية مندمجة تضع حياة المواطن في رأس أولوياتها فوق كل الاعتبارات الاقتصادية والحسابات المالية.

هذا السلوك هو نفسه الذي ينادي به أصحاب النموذجالكينزي للاقتصاد، والذي يقوم على تقوية دور الدولةفي توجيه الاقتصاد الوطني، وتوظيف أدوات السياسةالمالية لتحفيز النمو الاقتصادي، ويؤكد على عدم تخلىالدولة عن كل أدوارها لصالح السوق. وأعتقد أن توالي الأزمات المالية، وحالات الركود الاقتصادي الذي تقترب منه دول العالم حاليا يتطلب تدخل متوازن من أجل الحد تداعيات الازمات والاثار المدمرة للسوق الحر التنافسي خصوصا ونحن نعيش في ظل عولمة يتم فيها تشارك الايجابي والسلبي.

12. الاقتصاد ما بعد كورونا سيكون مغاير لما قبله وبوادر ولادة نظام مالي جديد

يزداد الخوف من تزايد مخاطر تفشي وباء فيروس، وما سببه من تعطيل لغالبية الاقتصادات العالمية وتوقيفالحياة اليومية، وإذا ما استمر هذا الوباء بالفصلالثاني من هذا العام فسيكون الإقتصاد العالمي تحتتهديد حقيقي ولن تكون هناك مساحة أخرى لإنقاذه، خصوصا وأن جُل الحكومات والأبناك المركزية اتخذت كل السياسات التيسيرية الممكنة واستخدمت جميع الأدواتالمالية المتاحة ولم تعد هناك حلول تحفيزية جديدة، الأمر الذي يطرح أكثر من علامات استفهام حول نجاعة الاسس الاقتصادية الحالية ويستلزم ضرورة البحث عنبدائل ونظم اقتصادية جديدة قادرة على تجاوز إخفاقاتوإكراهات الاقتصاد التقليدي. وقد صرَّحت منظمة الأممالمتحدة للتجارة والتنمية الأونكتاد بأن الاعتقاد فيسلامة الأسس الاقتصادية والاقتصاد العالمي الذييصحح نفسه، أمران يعرقلان التفكير السياسي فيالاقتصادات المتقدمة، وأكدت أن هذا الاعتقاد سيؤديإلى إعاقة التدخلات السياسية الأكثر جرأة، واللازمة لمنعتهديد أزمة أكثر خطورة، ويزيد من فرص أن تتسببالصدمات المتكررة في أضرار اقتصادية خطيرة فيالمستقبل.

هناك مؤشرات إضافية مقلة ظهرت بسبب هذا “الفيروس الاقتصادي” ولا يسعنا المقال لتفصيلها، وأبرزها يتمثل في تراجع أدوار الملاذات الامنة للمستثمرين وعدم نجاعتها خصوصا بعد بوادر انخفاض الذهب والسندات الحكومية والتي تُعتبر عادة أصول شبه خلية من المخاطر. وعليه، فإني أعتقد أن جائحة كرورنا أزاحتفقط الستار عن نقاط الضعف التي كانت موجودة فيالمنظومة الاقتصادية والمالية العالمية منذ أزمة عام 2008 وكشفت حدود النظام الرأسمالي الحالي والتيللأسف لم يتم علاجها لحد الآن. فلا تزال الأبناك لاتملك ما يكفي من رؤوس الأموال لتحمل صدمة شديدة،ولا يزال النظام المالي هشًا أكثر مما كان من أي وقتمضى، لا سيما بسبب المديونية العالمية المفرطة. والازمةالمالية ستكون أسوء في ظل هذه الظروف إذا أدىانتشار الفيروس إلى تعطل انشاط لاقتصادي في وقتأطول وأدى الأمر إلى حالات تخلف متتالية في أداءالديون الداخلية والخارجية، فسوف تنفجر القنبلة لامحالة في وجه الأبناك ووجه المؤسسات الدولية.

في نظري فإن هذا الانهيار التدريجي الحاصل للمنظومة الاقتصادية والمالية هي علامات لبداية تفكك القواعد المؤطرة والضابطة للنظام المالي الكلاسيكي وبوادر بروز قواعد جديدة لنظام مالي جديد، وبهذا سيكون الاقتصاد العالمي بعد جائحة كورونا مغاير لما قبله. وحسب قول الاقتصادي جامس بوكانان الحاصلعلى جائزة نوبل في الاقتصاد: «اذا أخفقت كل منالأسواق والحكومات في تحقيق العدالة والكفاءة معاً،فما هو البديل التنظيمي؟» وهذا هو السؤال الذي ينبغي على مفكري العالم -باختلاف تخصصاتهم- الاعتكاف والجواب عليه وإبداع تنظيم اقتصادي يقوم على مبدأ التضامن والتوازن الاجتماعي، اقتصاد عالمي يلتزم بالصالح العام الدولي وبالمسؤولية الاجتماعية، اقتصاد إنساني يحافظ على كرامة الانسان وعلى حقوقه.

13. توصيات مرحلية على السريع

دون التطرق للإجراءات الصحية والوقائية، فهناكالعديد من التدابير التي يجب على المنتظم الدولي وكل دولة اتخاذها، كل حسب تخصصه:

-إعطاء الأولوية للشق الاجتماعي وللدعم المالي المباشر للفقراء والاسر المهمشة في المناطق الجبلية والاماكن النائية؛
-منح دعم مباشر ومواكبة لصيقة للمقاولات الصغيرة والمتوسطة والصغيرة جدا باعتبارها الركيزة الاساسية للنشاط التجاري العالمي وتشغل أزيد من80 في المائة من اليد العاملة في غالبية الدولالأكثر تضرراً؛
-الحفاظ على مستوى أساسي -الحد الادنى- من النشاط الاقتصادي وتجنب الاشكالات التجارية الكبرى والمحافظة على سلاسل القيمة العالمية من أجل تحريك الاقتصاد العالمي واستعادة الثقة فيالأسواق المالية؛
-المحافظة على التدفقات الطبيعية للمحاصيل الزراعيةمن أماكن إنتاجها إلى أماكن استهلاكها مع الحرص على توفير مخزون معقول لكل دولة على حدة؛
-اعتماد تدابير مستعجلة لدعم للعاملين الأكثر عرضةللخطر، كالمهنيين والعمال المستقلين والأشخاص غيرالأجراء الذين يزاولون نشاطا خاصا أو في وظائفمؤقتة، والذين لا يمكنهم الاستفادة من إعاناتفقدان الشغل أو التأمين الصحي؛
-على صندوق النقد الدولي تجميد تسديد الديون بالنسبة للدول المتضررة كثيرا من آثار فيروس كورونا خصوصا دول القارة الافريقية، والعمل علىإعادة هيكلتها مستقبلا وذلك من أجل مساعدة هذه الدول على استعمال ما لديها من أموال لمكافحةهذه الجائحة؛
-جعل التكنولوجيا في لب السياسات العمومية المحلية لكل دولة وربطها لزاما بمنظومة التربية والتكوين وبالبحث العلمي والتوازن في استخدامها في القطاعات الانتاجية تفاديا لتفشي البطالة؛
-تعزيز أدوار الاقتصاد الاجتماعي والتضامني والتنمية المحلية والانطلاق من المقومات المحلية لكل دولة وفي كل مدينة، وتمكين السكان المحليين من القسط الاكبر من عوائد سلاسل الانتاج المحلية؛
-الحرص على التعاون العالمي وتنسيق الجهود والسياسات الدولية من أجل نجاعة أكبر في احتواءالخسائر البشرية والاقتصادية المحتملة لـفيروس كورون.

خاتمة : عبرة كرورنا

الأكيد أن فيروس كورونا ليس هو نهاية العالم، وهذه الازمة عابرة بالتأكيد، وسيستعيد العالم والاقتصاد سلوكه العادي بعد حل الأزمة، إلا أن حلها ليس في يد رؤساء الدول والحكومات وليس في يد الاقتصاديين والمحللين المالين، ولكن في يد المختبرات الطبية وهو رهين بوعي الشعوب ومرتبط بمدى التضامن والتآزر بينها. واجب الوقت هو إعطاء الأولوية للإنسان (صحته وتعليمه) على حساب المال والاقتصاد، لأن الاقتصاديمكن أن ويرجع للنمو ولكن لا يمكن للموتى الرجوعللحياة. كرورنا لم تختبر فقط كفاءة ونجاعة الاقتصاد العالمي، ولكنها امتحنت كذلك معدن المواطنين في كل بلد، واختبرت مصداقية منظومة القيم المجتمعية العالمية،وأبانت عن ضرورة خلق مجتمعات ترتبط فيها التنمية الاقتصادية مع متطلبات العدالة الاجتماعية وتوازن المصالح ويُقدر معنى ودور منظومة القيم الاجتماعية والاقتصادية للشعوب. فهل سينجو العالم بشكل عادل من الأثار المدمرة لهذا الفيروس؟ وهل سينجح العالمفي تجديد منظومة اقتصادية ومالية مغايرة لما قبل كرورنا؟

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M