قصة الطفل رَيَّان .. بين إشكالية الشر.. وسؤال الحكمة

08 فبراير 2022 15:32

هوية بريس – رضوان نافع

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على نبينا الكريم وآله الطيبين الطاهرين .
أما بعد :
فقد تابع المغاربة والمسلمون بل والعالم أجمع ما وقع للصغير ريان -رحمه الله وصبر وأعظم أجر والديه- وحبست الأنفاس لأكثر من ثلاثة أيام ، وأظهر الناس عاطفة جياشة، و ضجت أصوات المسلمين بالدعاء لهذا الصغير الذي شاء الله وقدر عليه أن يسقط في هذا البئر العميق الضيق، و لم يقدر فريق الإنقاذ على إخراجه إلا بعد ما اختاره الله لجواره ، فسلم المسلمون لأمر الله واسترجعوا وحمدوه على كل حال، وعلموا أن ما اختاره الله الحكيم العليم لهذا الصغير خير له، وكثير منهم تلمسوا ألطاف الله وحكمه في قصة هذا الصغير، لكن البعض لم يدركوا هذه الحكم بل زعموا أنهم تلمسوها ولم يجدوها، وعموا عما تجلى لغيرهم من الألطاف الإلهية بل زعموا أن هذه ليست ألطافا وإنما هي ترقيع لإثبات كمال الصفات الإلهية، ولا شك أن من درج على طرح الشكوك والشبه في كل صغيرة وكبيرة لمدة ليست يسيرة قد تركب عقله ووجدانه على نسق يصعب معه أن يدرك ما أدرك المؤمنون من هذه الحكم والألطاف مما أعقبهم تسليما لأمر الله ورضا بقضائه، و ثباتا على الإيمان بكمال ربهم في صفاته .
و لم يتوان المتشككون في بث شكوكهم وشبههم حول الحادثة و نثرها بين الناس دون مراعاة لما يسود من مشاعر الحزن والأسى الذي عم الأجواء بعد فقد الصغير .
وهذه الشكوك والشبه التي صاغها بعضهم على شكل أسئلة ليست إلا استهلاكا لما قاله السابقون من الحيارى من فلاسفة وغيرهم حول إشكالية الشر، وهذه حقيقة واقعة سواء أقروا بها أو أنكروها ، فإما أنهم نقلوها عن هؤلاء الفلاسفة، أو أنهم لما تشابهت قلوبهم وعقولهم قالوا مثل قولهم، أو أنهم سلكوا نفس المسلك والمنهج فقادتهم إلى نفس النتائج، عموما فالصلة ثابتة بين الفريقين على كل حال .
ولعل أقدم من خاض هذا الخوض هو الفيلسوف الإغريقي إبيقور – برَع في الفلسفة و الطب و خصوصًا علم الأجنة –
منذ 2300 سنة تقريبًا حيث طرح أول نموذج من التساؤلات و الانتقادات الموجهة للصفات الإلهية؛ مما سمي بإشكالية الشر المنطقية.
فما هي إشكالية الشر ؟
إشكالية الشر أو معضلة الشر هي محاكمة الصفات الإلهية مِن قدرة وعلم وإرادة الخير وحكمة؛ وجعل الشر الموجود في العالم مطعنا في هذه الصفات؛ فمعضلة الشر هي محاولة لانتقاد الكمال الإلهي بناءً على الشر الموجود في عالمنا.
و قد طرح إبيقور إشكالية الشر المنطقية التي هي من أول نماذج إشكالية الشر ، والتي تنص على أن صفات الإله كلي القدرة وكلي العلم وكلي الخير؛ لا تتسق منطقيًّا مع وجود الشر، لأنه إذا كان الإله كلي العلم فهو يعلم ضرورة بوجود الشر في العالم؛ وإذا كان كلي الخير فسيكون مريدا منع هذا الشر؛ وإذا كان كلي القدرة فسيقدر على منع هذا الشر؛ فبعد هذه المقدمات أو الادعاءات التي تنص على تَوفر صفات العلم بالشر وإرادة منعه والقدرة على منعه في الإله؛ يأتي السؤال: لماذا هنالك شر في العالم؟
فنلاحظ أن إشكالية الشر المنطقية لا تهدف إلى نفي وجود الإله ، ولكنها تنص على وجود تناقض بين كون الإله كامل الصفات وبين وجود الشر في العالم، فهي إشكالية تقدح في الصفات الإلهية لا في وجود إله بشكل عام. وهذا عين ما قصده بعض من طرح شكوكه بعد حادثة ريان -رحمه الله- .
ووجود الشر صار معضلة حقيقية عند كثيرين وقادتهم إلى الإلحاد ، وهذا ما أكّده العديد من صناديد الإلحاد، من أمثال أنتوني فلو، مُنظِّر الإلحاد الذي كان دهريا وتراجع، والذي رأى أن شبهة الشر كانت السبب الأول في إلحاده وجحوده لوجود إله خالق، ومنهم الفيلسوف الملحد ستيفن لاو و ويليام لين كريغ اللذين صرحا في مناظرة لهما بأن سبب إلحادهما شُبهة وجود الشر في العالم، ومنهم مايكل تولي الذي صرّح بدوره بأن “الحجة المركزية للإلحاد هي حجة الشر”.
لذلك فالرد على هذه الإشكالية يزيح معضلة في طريق البشر لتحقيق الإيمان .
و قد كانت هناك مساجلات بين الفلاسفة حول هذه الإشكالية، فظهرت ردود و محاولات لنقضها، ومن بين ما رد به الفلاسفة قديما نظرية العدالة الإلهية أو الثيوديسيا (Theodicy) التي جاء بها الفيلسوف وعالم الرياضيات الشهير جوتفريد لايبنتس، وهي نظرية تبحث في إثبات العدالة الإلهية والدفاع عن الصفات الإلهية و الرد على إشكاليات الشر وانتقادها.
وردًّا على الإشكالية المنطقية للشر السابق ذِكرها تقول نظرية العدالة الإلهية أو الثيوديسيا بأن الشر في هذا العالم هو ضريبة حرية الإرادة لدى الإنسان؛ فالشر الموجود بالعالم من جشع وظلم وحقد وقتل و ألوان من الآلام سببها أفعال الإنسان التي تنبع من الإرادة الحرة التي يتمتع بِها، فالإنسان هو المسؤول عن الشر في العالم لا الإله هو المسؤول.
فنظرية العدالة الإلهية من بين جهود الفلاسفة التي عالجوا من خلالها إشكالية الشر ، لكننا ننبه بأن رد النظرية على إشكالية الشر مبني على اِفتراض وجود حرية الإرادة، لكنها لا ترد على إشكالية الشر المنطقية ؛ فرد الثيوديسيا في أحسن أحوالها تفسر لنا وجود الشر في العالم؛ لكنها لا تجيبنا عن سبب استمرار وجود هذا الشر في العالم.
ولن أتعمق كثيرا في الاعتراضات التي أثيرت حول هذه النظرية وما رد به الثيوديسيون على هذه الاعتراضات ، لكن أقول بإيجاز أن أصحاب نظرية العدالة الالهية يقولون بأن وجود الشر في العالم هو ضريبة حرية الارادة والفعل الذي يتمتع به الانسان وأنه هو المسؤول بسوء أفعاله عن الشر الذي يوجد في العالم.
ويجيبون على من اعترض عليهم بأن من الشر ما هو خارج عن مسؤولية الانسان مثل الكوارث والأمراض وكثيرا من الشر الطبيعي؛ بأن هذا الشر نتج عنه خير صريح ونفع للانسان وذلك لكونه كان سببا في ظهور علم الطب وعلم الجيولوجيا وعلوم الحياة والأرض وغيرها من العلوم .
وهذا الذي ذكره التيودوسيون في ردهم على هذا الاعتراض هو ما يقرره الشرعيون في النموذج الإسلامي من أنه ليس هناك شر محض.
ومن الاعتراضات المتصلة بالاعتراض المتقدم ما يسمى بإشكالية الشر الاثباتية، وهي الشق الثاني من إشكالية الشر. والتي تتلخص في اعتراضها على تبرير وجود الشر بما نتج عنه من خير صريح بالنظر الى كمية الشر الموجود لا إلى وجود الشر في حد ذاته. فأصحاب هذه الإشكالية يقولون هل كل هذا الكم من الشر ضروري لوجود الطب وباقي العلوم وتقدمها؟ . وردا على هذا الاعتراض يقول الثيوديسيون أن أي شر بغض النظر عن كمه وكثرته فهو سبب لوجود الخير. وهذا الخير لم يكن ليوجد لولا وجود هذا الشر أو كما يقولون “خير درجة ثانية يستلزم وجود شر درجة أولى”. ولا شك أن نظرية العدالة الإلهية التي قدمها الثيوديسيون فيها بعض الثغرات التي وجهت لها اعتراضات، بل هناك من سلك نفس المسلك واستدل بنفس الحجج و استعمل نفس الأدوات للرد عليها كما فعل ستيفن لو في كتابه «مقدمة قصيرة عن الانسانوية»، حيث قدم فرضية مضادة لنظرية الثيوديسيا وسماها فرضية الإله الشرير، وستيفن لم يطرح فرضيته لإثبات وجود إله شرير حقيقة فهو لا ديني ملحد؛ بل طرح نموذجه لكي يبين للثيوديسيين أنه بنفس الحجج والادوات التي سلكوها في الدفاع عن وجود إله خير يستطيع استخدامها للدفاع عن إله شر، وعند تفكيك فرضيته لا شك أننا سنجدها مبنية على مغالطة جدلية ، فلا يمكن قلب نظرية الثيوديسيا وتسلم الادعاءات الأربع لأن الواقع يشهد أن الخير أصل والشر عارض وأن الخير طاغ وأن الشر بالنسبة إليه قليل، ولا حاجة لنا في مزيد من التفصيل في الاعتراضات حول نظرية الثيوديسيا وأجوبتها ، لأننا جعلناها مقدمة فقط بين يدي
النموذج الاسلامي الذي لا نشك أنه أكمل وأحكم في الرد على اشكالية الشر واوضح في الرد على الاعتراضات التي يوردها اصحاب هذه الإشكالية .
وفي النموذج الإسلامي دحض للحجج مع إثبات كمال الصفات الإلهية وسبيل هذا إجمالا هو إثبات أن الادعاءات الأربعة التي تضمنتها إشكالية الشر غير متناقضة. وهذه الادعاءات هي : 1)الله كامل القدرة.
2)الله كامل العلم.
3) الله كامل الخير.
4) الشر موجود.
ولإثبات هذا ينبغي تبرير وجود الشر مع تقرير كمال الصفات الإلهية فالمؤمن يعتقد كمال الإله في قدرته وعلمه وإرادته للخير. ويثبت مع ذلك بأن وجود الشر لا يناقض هذا الكمال.
وقبل التفصيل في ذلك أشير بأن للفلاسفة أيضا محاولة في هذا الصدد فقد طرحوا حجة جدلية أطلقوا عليها: “السبب الكافي اخلاقيا”.
فقالوا بأن الله عالم بوجود الشر وقادر على إنهائه، لكنه سمح بوجوده ولم يمنعه أصالة لوجود سبب كاف أخلاقيا يبرر حدوث هذا الشر ، وهذا ما يسمى في النموذج الإسلامي بالحكمة من وجود الشر.
وقد ظهرت نماذج فلسفية ركزت على شق واحد في الرد على اشكالية الشر.
وبعضها جعل حرية الإرادة هي السبب الأخلاقي الكافي لوجود الشر الموجود بالعالم، كدفاع حرية الإرادة للفيلسوف الأمريكي ألڤين بلانتينجا الذي جعل خلق أفراد لهم حرية إرادة أخلاقية له قيمة كبرى وأهمية عظمى بحيث يكون سببا كافيا أخلاقيا لوجود الشر وأن ذلك لا يطعن في كمال وكلية الصفات الإلهية.
يقول ألڤين بلنتنجا : ” إن حقيقة وجود مخلوقات حرة تُخطئ أحيانًا لا تُحسب ضد وجود قدرة الله الكلية ولا ضد خيريته؛ لأنه ليس بالإمكان منع وقوع الشر الأخلاقي إلا بمنع إمكانية الخير الأخلاقي”. وهذا يقرره النموذج الإسلامي في تبرير الشر المرتبط بالإنسان فالله قد وهب حرية الإرادة للبشر لاختبارهم، ومن لوازم هذا عدم التسيير إلى الخير أو منع وجود الشر، فالاختبار مع المنع من اختيار الشر والتمكين من اختيار الخير في كل مرة لا يصح عقلا؛ لذلك فالله كما خلق “إبليس” فإنه أرسل الأنبياء، وكما وكل بالإنسان قرينه من الشياطين يأمره بالشر قد وكل به قرينه من الملائكة يأمره بخير ، ثم ترك للإنسان حرية الركون إلى أحد القرينين وحرية اختيار الخير أو الشر .
ومن الجدير بالإشارة أن بعض المؤمنين بوجود الإله قد أبطل أحد الادعاءات الأربع الإشكالية الشر و أنكر كمال صفة القدرة الإلهية فهذا الحاخام اليهودى الامريكى المعاصر هارولد كوشنر Harold Kushner فى اكثر كتبة مبيعا “عندما تحدث الاحداث السيئة للبشر الطيبة When Bad Things Happen to Good People” الذي نشر سنة 1981 طرح مخرجا للأنسان المؤمن للخروج من معضلة الشر ، برفض الادعاء الاول، وهو أن الله كامل القدرة! تصديقا لادعاء كوشنر الذي صور الله ككائن خير محب، عليم، لكنه غير قادر على منع الشر! وهذا بلا بلا شك هراء غير مقبول وهو جار على أصول ضلال اليهود الذين ينسبون النقص للإله وقد ورد في القرآن طرف من أخبارهم ومن ذلك قول الله تعالى ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا ﴾ [المائدة: 64]
وقوله﴿ لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ﴾ [آل عمران: 181].
وقوله﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ ﴾ [التوبة: 30].
وفي كتب اليهود الكثير من نسبة النقص إلى الله وهو من تحريفهم لما دل عليه الكتاب المنزل إليهم .
ولعل هذا الاعتقاد يتوافق مع طرحه بعض المتشككين من اعتقاد وجود إله لكن نفاه عنه الكمال الذي يعتقده المسلمون في ربهم.
ومما تقدم يظهر أن الجواب على السؤال: ما الحكمة من وجود الشر؟ يحل الإشكالية مع أنه في النموذج الاسلامي لا يقتصر على الادعاءات الأربع وإنما يضاف إليها أن الله كامل الحكمة أو تختزل الادعاءات الأربع في ادعاء كلي وهو أن الله كامل الصفات، ليشمل ما تضمنته الادعاءات الموجودة في إشكالية الشر من صفات ويشمل غيرها من الصفات كالرحمة والعدل .

وقبل الشروع في عرض النموذج الاسلامي وبيان إحكامه ،
يظهر مما تقدم أن العالم الأفلاطوني الخالي من الشرور، الذي يريده الملاحدة للإيمان بوجود إله كامل من السذاجة بمكان ، لأن “صناعة النفس لا يمكن أن تكون في واقع خامل بلا تأثير ولا خيارات” فالعالم من غير شر يشبهه سونبرن بالعالم اللعبة (Toy World) الفاقد للأهمية والخالي من الإرادة ضد الشر أو الأثر في سبيل الخير، ولا يمكن أن يكون عالمًا حقيقيًا، وإنما هو مجرد وهم لا يترك ذواتنا حتى تصير على شاكلته.
أما النموذج الإسلامي فهو يدعو إلى طلب المدينة الفاضلة الخالية من الشرور لكن بدعوة الناس إلى اختيار الخير و ترك الشر مع تقرير قيمة حرية الإرادة ، وليس مطالبة الإله برفع الشر وتسيير الناس إلى الخير.
فلو كان الخلق كلهم صالحون لا يخطئون لتعطل أثر كثير من صفات الله وأسمائه كصفة العفو والمغفرة والصفح والتجاوز والانتقام والعز والقهر والعدل والحكمة ، ” ولو كان الناس كلهم على مستوى واحد من الخيرية الجبرية لفاتت الحكم والآيات والعبر والغايات المحمودة في خلقهم على هذا الوجه وفات كمال الملك والتصرف”.
وفي نقض النموذج الإسلامي لإشكالية الشر نجده يقرر صحة الادعاءات الأربع التي حوتها إشكالية الشر و عدم تناقضها ، ويمكن اختزال تلك الادعاءات الأربع في ادعائين أولهما: الله كامل الصفات وثانيهما الشر موجود.
فوجود الشر لا يناقض وجود الإله كامل الصفات الحكيم العليم القدير الرحيم .
وبيان نفي التناقض يكمن في الإجابة على السؤال : ما المبرر أو ما الحكمة من وجود الشر ؟ كما تقدم .
وقد تعرض حجة الإسلام أبو حامد الغزالي لهذا السؤال، وأجاب عنه فقال -رحمه الله-: ((لعلك تقول: ما معنى كونه تعالى رحيمًا، وكونه أرحم الراحمين؛ والرحيم لا يَرى مبتلًى ومضرورًا ومعذَّبًا ومريضًا، وهو يقدر على إماطة ما بهم إلا ويبادر إلى إماطته، والرب سبحانه وتعالى قادر على كفاية كل بلية، ودفع كل فقر وغُمَّة، وإماطة كل مرض، وإزالة كل ضرر، والدنيا طافحة بالأمراض والمحن والبلايا، وهو قادر على إزالة جميعها، وتاركٌ عبادَه ممتَحنِين بالرزايا والمِحَن؟
(فجوابُك): أن الطفل الصغير قد ترِقُّ له أمه فتمنعه عن الحجامة، والأب العاقل يحمله عليها قهرًا، والجاهل يظن أن الرحيم هي الأم دون الأب، والعاقل يعلم أن إيلام الأب إياه بالحجامة من كمال رحمته وعطفه وتمام شفقته، وأن الأم له عدو في صورة صديق، فإن الألم القليل إذا كان سببًا للَّذة الكثيرة، لم يكن شرًّا؛ بل كان خيرًا.
والرحيم يريد الخير للمرحوم لا محالة، وليس في الوجود شر إلا وفي ضمنه خير، لو رفع ذلك الشر لبطل الخير الذي في ضمنه، وحصل ببطلانه شر أعظم من الشر الذي يتضمنه، فاليد المتآكلة قطعُها شر في الظاهر، وفي ضمنه الخير الجزيل، وهو سلامة البدن، ولو تُرِكَ قطعُ اليد لحصل هلاك البدن، ولكان الشر أعظم.
وقطع اليد لأجل سلامة البدن شر في ضمنه خير، ولكن المرادَ الأول السابق إلى نظر القاطع: السلامةُ التي هي خيرٌ محض، ثم لما كان السبيل إليه قطع اليد، قصد قطع اليد لأجله، فكانت السلامة مطلوبةً لذاتها أولًا، والقطع مطلوبًا لغيره ثانيًا، لا لذاته، فهما داخلان تحت الإرادة، ولكن أحدهما مراد لذاته، والآخر مراد لغيره.
والمراد لذاته قبل المراد لغيره؛ ولأجله قال الله عز وجل: “سبقت رحمتي غضبي”. فغضبه إرادته للشر، والشر بإرادته، ورحمته إرادته للخير، والخير بإرادته. ولكن إذا أراد الخير للخير نفسه، وأراد الشر لا لذاته، ولكن لما في ضمنه من الخير؛ فالخير مقضيٌّ بالذات، والشرُّ مقضيُّ بالعَرَض، وكلٌّ بقدرٍ، وليس في ذلك ما ينافي الرحمة أصلًا.
فالآن؛ إن خطر لك نوع من الشر لا ترى تحته خيرًا، أو خطر لك أنه كان تحصيل ذلك الخير ممكنًا لا في ضمن الشر، فاتَّهم عقلك القاصر في أحد الخاطرَيْن.
أما في قولك: إن هذا الشر لا خير تحته، فإن هذا مما تقصُر العقول عن معرفته، ولعلك فيه مثل الصبي الذي يرى الحجامة شرًّا محضًا، أو مثل الغبي الذي يرى القتل قِصاصًا شرًّا محضًا؛ لأنه ينظر إلى خصوص شخص المقتول؛ لأنه في حقه شر محضٌ، ويذهَلُ عن الخير العام الحاصل للناس كافة، ولا يدري أن التوصل بالشر الخاص إلى الخير العام خير محض لا ينبغي للغير أن يهمله.
أو اتهم عقلك في الخاطر الثاني، وهو قولك: إن تحصيل ذلك لا في ضمن ذلك الشر ممكن، فإن هذا أيضًا دقيق غامض، فليس كل محال وممكن مما يُدرك إمكانه واستحالته بالبديهة ولا بالنظر القريب؛ بل ربما عُرِف ذلك بنظر غامض دقيق يقصر عنه الأكثرون)) [المقصد الأسنى ص 64-65 ].
وبالرجوع إلى قصة الصغير ريان رحمه الله التي شغب على إثرها المتشككون ، وتساءلوا أين هي رحمة الله؟ وأين هي قدرة الله ؟ و أين هي إرادة الله الخير؟ وأين هي حكمة الله فيما جرى؟
فنجيبهم أن الله سبحانه وتعالى له الأولى والآخرة و حكمة الله اقتضت وصل الأولى بالآخرة في جعل الأولى دار عمل والآخرة دار جزاء ، ورتب بعض الجزاء على بعض القضاء والابتلاء ، لذلك فمن ركائز النموذج الإسلامي استصحاب هذا الوصل بين الدارين الذي يتجلى فيه كمال الصفات الإلهية من عدل و حكمة ورحمة و غيرها من الصفات التي تقتضي مجازاة الأخيار على خيرهم والأشرار على شرهم وتعويض المبتلين على ابتلائهم.
فهذا الصغير قد اختاره الله لجواره ويرجى له خير عظيم وأجر جزيل فهو مات دون البلوغ وقد صح عن نبينا أن أطفال المسلمين في الجنة في كفالة سيدنا ابراهيم وسارة، وليس عليهم حساب ولا فتنة ولا عذاب في القبر. و يرجى له أيضا منزلة الشهداء فهو مترد في بئر ، وميتته فيها شدة فيرجى له أجر الشهداء، وهذا كرم واصطفاء .
فنقول للمتشككين هل تريدون بهذه الشكوك والسموم نفع الولد الميت فهو إن شاء الله قد تعجل إلى الجنة، وهذا غاية ما يرجوه مخلوق، وإن كنتم تفعلون ذلك تأسفا على أبويه فهو أنفع لهما وهو بين يدي ربه يشفع لهما و ينالا أجرا عظيما على صبرهما عليه . وإذا لم يقض الله بالمصائب والبلاء فبماذا سينال الناس أجر الصبر الذي لا يضاهيه أجر (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ).
بل حتى على مستوى النفع الدنيوي المادي فلعله قد حصل لهما بهذا الابتلاء ما لم يكن يخطر لهما ببال ، فقد تبرع عليهم اللاعب حمد الله -جزاه الله خيرا وتقبل منه- بمنزل لائق ، وتبرع عليهما غيره بمال وفير وحجة وعمرة وأغناهم الله بعد فقر مذقع، فكم من خير تحت هذا الشر، وكم من منحة كانت تحت المحنة ، ومن هذا الخير ما ظهر في نفوس هؤلاء المتبرعين من خير فبادروا إلى مواساة هذا المبتلى بالسكن والمال و تحقيق الأمنيات الكبيرة، وكذلك ما ظهر في نفوس الحشود التي حجت إلى مكان الحادث تعاطفا مع أسرة الفقيد وما ظهر من تعاطف في العالم الإسلامي بأسره وما حصل من اجتماع القلوب و خفوت الفتن و الضغائن بين المسلمين طيلة الأيام التي قضاها ريان في البئر .
(ورب ضارة نافعة) هذه العبارة التي قالها أحد المتشككين لتبرير خطأ وقع فيه وهو بشر سمته النقص والغفلة ، فكيف لا يجوز مثل هذا لتبرير أفعال العليم الخبير الذي لا يعتريه نقص ولا تعرض له غفلة.
ولا شك أن رحمة الله بعبده بكفايته فتنة القبر وأهواله و إدخاله الجنة بغير حساب وتبليغه منازل الشهداء فيها أعظم من رحمته بإنجائه أو معافاته من البلاء ، نعم الله كان قادرا على إنجائه وإنقاذه ولكنه بحكمته أراد له ما هو خير ، وأتمثل هنا قول الشاعر أبي الحسن التهامي:
أبكيه ثم أقول معتذرا له ***** وُفّقْتَ حين تركتَ ألأمَ دار
جاورتُ أعدائي وجاور ربه ***** شتان بين جواره وجواري.

وتجلت أيضا قدرة الله في إنفاذ حكمه وقضائه رغم كل الحشود وتظافر كثير من الجهود وتسخير إمكانات دولة بأكملها وهذا مصداق قوله صلى الله عليه وسلم (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ) .
ومن طريف ما أذكره هنا أن المتشككين لا زالوا ينكرون المعجزات والخوارق ويسخرون ممن يؤمن بها أو يقول بجوازها وإمكانها ثم إنهم في مثل هذه الأحداث يحاسبون الإله على أنه لم يخرق السنن و يعطل الأسباب و يظهر المعجزات لإنقاذ هذا الطفل ، وعند تجريد الحادث فهذا الطفل سقط في بئر عميق وتعرض لأسباب الوفاة وحال ضيق البئر و عمقه وطبيعة الإمكانات المسخرة للإنقاذ دون الوصول إليه قبل تحقق أثر الأسباب عليه ووفاته، فلم تحاسبون الإله سبحانه؟! بل يمكننا هنا على سبيل التجوز ومن باب الإلزام أن نحمل المسؤولية للإنسان الذي يتمتع بحرية الإرادة والفعل فهو من حفر البئر ولم يغطه وهو من فرط في أسباب حفظ الطفل بتركه بجوار خطر يتهدده .
هذا من باب الإلزام وإلا فقولنا بعد قضاء الله: قدر الله وما شاء فعل .
وأشير هنا أن ما يثيره أصحاب إشكالية الشر الإثباتية من اعتراض على كمية الشر لا على أصله يرد عليه في النموذج الإسلامي بأن كثرة الشر قد تكون أدل على الكمال الإلهي- مع أن القلة والكثرة بالإضافة إلى الله شيء نسبي- فالحرائق الهائلة والفيضانات الجارفة و الزلازل المدمرة وشيوع الموتان بالطعن والطواعين مما يراه المتشككون إفراطا في الشر خرج عن حد السبب الكافي أخلاقيا أو خالف مقتضى الحكمة، يراه المسلم من تجليات كماله في صفاته من رحمة وكرم واصطفاء واختيار ، إذ يكون الإنعام الذي ذكرناه للمبتلى الواحد شاملا للجم الغفير من العباد ، فتحت كل شر خير عظيم.
فالشر كما سبق ، سبب لظهور الخير في النفوس و لتحقق خيرات في الدنيا والآخرة ،
وظهور الحكمة والسبب الأخلاقي من هذا الشر الذي لا يصدر إلا عن إله، ينبغي أن يقود هؤلاء المتشككين بدلا من الحكم بعبثية وجود الشر والطعن في وجود الإله أو في كمال صفاته إلى
القول بأن إمكانية الشر في العالم لا تعارض وجود الإله كما يزعم الإلحاد، بل إنها على الحقيقة، كما تقدّم، تثبت حكمة الله التابعة لوجوده. ومن المؤسف أن إنكار الإله الناتج عن وجود الشر هو نفسه السبب في استمرار المعاناة؛ لعدم استشعار القيمة من وراءه، وهذا نتيجة طبيعية لفقدان العقيدة الإيمانية التي تورث الصبر والسلوان ، وتلامس الحكمة وتطمئن لعدل الإله و حسن جزائه.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وسلم .

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M