من أخطاء التفسير عند محمد عابد الجابري (ج3)

03 مارس 2017 22:42
من أخطاء التفسير عند محمد عابد الجابري (ج4)

هوية بريس – عبد الكبير حميدي

من أخطاء التفسير عند محمد عابد الجابري (ج3)يحدد الجابري منهجه في تأويل النص القرآني، وهو التعامل المباشر مع النص، من خلال فصله عن التراث التفسيري للأمة، وإعادة قراءته في ضوء ظروف ومستجدات العصر، وفي ذلك يقول: “فهم القرآن” ليس هو مجرد نظر في نص ملئت هوامشه وحواشيه بما لا يحصى من التفسيرات والتأويلات، بل هو أيضا “فصل” هذا النص عن تلك الهوامش والحواشي، ليس من أجل الإلقاء بها في سلة المهملات، بل من أجل ربطها بزمانها ومكانها، كي يتأتى لنا “الوصل” بيننا نحن في عصرنا وبين “النص” نفسه، كما هو في أصالته الدائمة… وما نقصد بـ”أصالة النص”… هنا على صعيد الفهم، هو هذا النص مجردا عن أنواع الفهم له، التي دونت في كتب التفسير باختلاف أنواعها واتجاهاتها. إن الأمر يتعلق هنا أساسا بعزل المضامين الإيديولوجية لتلك الأنواع من الفهم”.[1]

إن الأمر في نظري المتواضع، لا يعدو أن يكون طريقة ذكية وحيلة لبقة من الدكتور الجابري غفر الله له، تقضي بحسن التخلص من التراث التفسيري للأمة، وبإلقائه الفعلي في سلة المهملات، لكن بشكل صامت وهادئ، ودون استفزاز أحد أو إثارة حفيظته، بزعم أن تهميش ذلك التراث ليس مقصودا لذاته، ولا ينطوي على أية نظرة سلبية إليه، وإنما القصد منه -فقط- تحقيق أعلى درجات “الوصل بيننا وبين النص، كما هو في أصالته الدائمة”.

ورغم ذلك، فقد شعر الجابري في قرارة نفسه، أن الأمر يتعلق بمغامرة طوباوية غير واقعية وغير ممكنة، فاستدرك على نفسه -في ذات النص- بتقييد مفهوم “الفصل” بين “النص القرآني”، وبين “الهوامش والحواشي”، بأن الأمر يتعلق أساسا ب”عزل المضامين الإيديولوجية لتلك الأنواع من الفهم”.

ثم إن الدكتور الجابري أدرك -بحسه العلمي وتجربته البحثية- ثقل المهمة ووعورة الطريق، وفهم أن النص القرآني المعجز ببلاغته ونظمه، وبألفاظه ومعانيه، لا يستطيع الغوص في أعماقه، ولا استخراج درره ولآلئه، إلا من أتقن فن التدبر والتفسير، وحذقهما حد التفوق والنبوغ، فقرر الاستفادة من بعض التفاسير “غير الإيديولوجية” حسب تصنيفه، وفي ذلك يقول: “أما المحتوى المعرفي في كتب التفسير فلأنها -في الجملة- يكرر بعضها بعضا، فإنه يمكن الاستغناء عن كثير منها والاقتصار على التفاسير المؤسسة: مثل التفاسير التي ألفها بعض علماء اللغة، وبعناوين لغوية الطابع مثل “مجاز القرآن” و”معاني القرآن”، والتفسيرين الذين يمكن اعتبارهما بحق عمدة التفاسير اللاحقة لهما، وهما “جامع البيان في تفسير القرآن” لمحمد بن جرير الطبري[2]… و”الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل” للزمخشري… أما التفاسير الأخرى التي لا يكرر بعضها بعضا كحلقات متفرعة عن سلسلة الطبري أو الزمخشري، فهي في الغالب تتحرك، بوضوح وسبق نية، في إطار مذهب من المذاهب التي عرفها تاريخ الفكر الإسلامي، ومع أننا لم نقص هذه من اهتمامنا إقصاء، فإننا قد تجنبنا صحبتها لما يغمرها من “مياه” إيديولوجية متدفقة “. [3]

يفترض فيمن يتحدث عن المكتبة التفسيرية الإسلامية على هذا النحو، وفيمن يقسمها إلى تفاسير مؤسسة وأخرى مقلدة وثالثة مذهبية إيديولوجية، أن يكون قد قتل تلك المكتبة -أو أغلبها على الأقل- بحثا واطلاعا وتحقيقا، وهو ما لا تشهد به السيرة العلمية للدكتور الجابري، الذي قضى جل حياته العلمية في البحث في بطون كتب الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام والتصوف والمذاهب، وقضى ردحا من عمره العلمي في نقد العقل العربي ودراسة تكوينه وبنيته، ولم يدخل ميدان العلوم الشرعية عموما، وميدان التفسير بوجه خاص، إلا في السنين الأخيرة من عمره غفر الله له.

ومع ذلك، فإنني أوافق الدكتور الجابري الرأي، في اعتباره تفسيري كل من الطبري والزمخشري تفسيرين مؤسسين، بالنظر إلى ما خلفاه من ذكر وأثر وما تردد لهما من أصداء في كتب التفسير على اختلاف اتجاهاتها ومشاربها، وإن كنت لا أوافقه الرأي في إخراجه تفسير “الكشاف” للزمخشري -رحمه الله- من دائرة ما يسميه بـ”التفاسير الإيديولوجية”، وهو الذي يعلم مقدار اعتزاز الزمخشري بمذهب المعتزلة وتعصبه له، ومدى وفائه للأصول الخمسة للمعتزلة والتزامه بها، إلى درجة التعسف البين والتكلف الظاهر، في تأويل كل آية قرآنية يخالف ظاهرها أحد تلك الأصول، مما هو مشهور معروف لدى المبتدئين من الباحثين فضلا عن كبارهم ومحققيهم، وربما كان عذر الجابري في ذلك حماسته الزائدة للمعتزلة، وتعاطفه الظاهر مع أفكارهم وأطروحاتهم، باعتبارهم يمثلون -في منظوره- “العقلانية الإسلامية”، على غرار “العقلانية الديكارتية” و”عقلانية سبينوزا” و”ليبنتز”، وغيرها من العقلانيات الغربية.

ثم إن الدكتور الجابري لم يكد يشرع فعليا في تفسير آيات القرآن الكريم، حتى أدرك أن الأمر جد وليس بالهزل، وأنه لا فائدة ترجى من تقسيماته السابقة للتفاسير، ولا لحديثه عن “إقصاء” ما سماه ب “التفاسير “الإيديولوجية”، ولذلك استقر رأيه على الاستفادة من جميع التفاسير، بما فيها التفاسير المقلدة والإيديولوجية، وفي ذلك يقول: “كان علي الرجوع إلى جميع ما أمكنني الحصول عليه من المؤلفات السابقة التي لها علاقة بـ”فهم القرآن”، ويقع جلها تحت عنوان التفسير. والتفاسير كثيرة جدا: منها الطويل والوسيط والوجيز، ومنها السني والشيعي والصوفي، ومنها الذي يغلب عليه الاعتماد على المأثور، ومنها الذي يغلب عليه الرأي، ومنها الذي يهيمن فيه المنظور الفقهي، ومنها الذي يستهوي صاحبه الجدل “الكلامي” (نسبة إلى علم الكلام)، كما أن منها ما ليس تفسيرا للقرآن بالمعنى الاصطلاحي بل حديثا تحت ظلاله، أو اجتهادا على ضوء مناره إلخ، إلخ”.[4]

ويظهر بجلاء من خلال كلام الدكتور الجابري آنف الذكر، كونه دخل ميدان التفسير بسقف طموح مرتفع جدا، وبثقة زائدة في النفس والإمكانيات، لكنه لم يكد يطأ أرض الميدان بقدميه، حتى شعر بغير قليل من التردد والاضطراب، فبدأ يخفض ويعدل من سقف ذلك الطموح، بين مرحلة وأخرى، حتى بدا أكثر تواضعا وواقعية، لولا أنه لم يتمكن من التخلص من كل الهواجس والخلفيات والمشوشات الإيديولوجية التي دخل بها، والتي حدت من حريته وانطلاقه، وأربكت محاولته في استكناه أعماق النص وارتياد آفاقه، مثلما سنرى في الشق التطبيقي من هذه الدراسة النقدية.

ثم إن الدكتور الجابري رحمه الله، قرر اعتماد ترتيب النزول بدل ترتيب المصحف، وهي قاعدة هامة من قواعد “تفسير القرآن بالقرآن”، لولا أن سوء فهمه وتطبيقه لها أوقعه في منزلق منهجي كبير، سنبينه في حينه بحول الله، يقول في بيان القاعدة: “النتيجة العامة والعملية التي خرجت بها من مصاحبة التفاسير الموجودة، هي أن المكتبة العربية الإسلامية تفتقر إلى تفسير يستفيد في عملية الفهم من جميع التفاسير السابقة، ولكنه يعتمد ترتيب النزول، ويسلك طريقة في “الإفهام” ألصق بالطريقة التي تعتمد اليوم في الكتابة، مع الاستفادة مما يقدمه الحاسوب من إمكانيات على مستوى التنظيم والتصنيف واستعمال العلامات إلخ”.[5]

وإن تعجب فعجب ذكر الجابري لتفسير العلامة الفلسطيني محمد عزة دروزة المسمى بـ”التفسير الحديث” في بعض هوامش كتابه، وهو تفسير اعتمد ترتيب النزول قبل الجابري بعقود، ثم حديثه -في النص آنف الذكر- عن افتقار المكتبة التفسيرية إلى تفسير يعتمد ترتيب النزول بدل ترتيب المصحف، اللهم إلا إذا كان لا يرى في الرجل مفسرا ولا في كتابه تفسيرا، وهو ما لم يذكره الجابري، ولا يستطيع ذكره، وما لم يقل به أحد من أهل العلم والبحث والتفسير.

وأما من ناحية الترتيب و التبويب، فقد اختار الجابري توزيع “مادة التفسير” في كل سورة إلى ثلاثة أقسام: تقديم، وهوامش، وتعليق. أما التقديم فقوامه عرض مختصر، صدرنا به كل سورة، خصصناه لأهم المرويات التي وردت حولها كسورة، أو حول بعض آياتها، مما يعتبر من “أسباب النزول” أو ما هو مجرد مرويات تعين على الفهم أو على تحديد تاريخ نزول السورة أو ظروف نزولها إلخ، مع التخفيف من سلاسل السند[6] إلى أقصى حد، إذ ما الفائدة من ذكر السند لغير المختص فيه؟ أما المختص فله مراجعه ومقاييسه “.[7]

ومع احترامي لحق كل باحث في تقسيم بحثه التقسيم الذي يراه ملائما، ومع أنه لا مشاحة في الاصطلاح كما يقال، فإنني لا أفهم لماذا أقحم الجابري -غفر الله له- ألفاظا صحفية وأدبية مبتذلة، مثل: التقديم، والتعليق، والهوامش، في حقل علمي له خصوصيته وحرمته ومصطلحاته مثل حقل التفسير.

ثم إنني لا أفهم كيف يتحدث الجابري عن أسانيد التفسير بهذه اللغة، ويصفها بـ”سلاسل السند”، وهو الذي يعلم أن الإسناد خصيصة الأمة المسلمة، وأنه يرجع إليه الفضل في حفظ تراث الأمة من الاختلاط والوهم والضياع، وأنه “لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء” كما قال عبد الله بن المبارك رحمه الله.

وفي ختام مقدمته المنهجية، حدد الجابري جوهر محاولته “التفسيرية”، والأساس العلمي الذي استندت إليه، فقال: (إذا كان من الضروري التعبير، في كلمات معدودة، عن جوهر ما دشنا القول فيه بهذا العمل، فنحن لا نتردد في ادعاء أننا نشعر بالتوفيق في “قراءة القرآن بالسيرة  وقراءة السيرة بالقرآن”).[8]

ما أجمل “قراءة القرآن بالسيرة” و”قراءة السيرة بالقرآن”، لو كان الجابري يقصده قولا وفعلا، ولكن الرجل يقوله ويقصد به -مع الأسف- شيئا آخر، تبين لنا من استقراء منهج توظيفه لأحداث السيرة النبوية في بيان آيات كتاب الله تعالى،  أنه يقصد به التعمية على “أرخنة” النص القرآني، التي أعملها في التأويل، وربط من خلالها أحكام القرآن بأشخاص وأحداث ونوازل بعينها، لتسويغ إحالتها إلى التاريخية، ولتبرير قصرها على بيئة النزول دون سواها من البيئات، وعلى زمان النزول دون سواه من الأزمنة، وعلى مجتمع النزول دون غيره من المجتمعات، مما يتعارض مع عموم أحكام الشريعة، ومع شمول الإسلام للزمان والمكان والإنسان، ومما يتناقض مع ما صرح به الجابري نفسه في مطلع مقدمته، من أن “القرآن خطاب لأهل كل زمان ومكان”.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]– “المرجع السابق”، المقدمة، ص:7.

[2]– عنوانه الصحيح “جامع البيان في تأويل آي القرآن” وليس “جامع البيان في تفسير القرآن” كما ذكر الجابري.

[3]– “فهم القرآن الحكيم للجابري”، القسم الأول، المقدمة، ص:7-8.

[4]– “المرجع السابق”، المقدمة: ص:9.

[5]– “المرجع السابق”، ص:10-11.

[6]– لاحظ كيف عبر الجابري عن الأسانيد -التي هي عماد النقل والرواية في تاريخ الأمة- بـ”سلاسل السند”.

[7]– “فهم القرآن” القسم الأول، ص:13.

[8]– “فهم القرآن الحكيم”، 1/15.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M