فضل الكتب والكتابة (ح1)

26 مارس 2014 20:47
فضل الكتب والكتابة (ح1)

فضل الكتب والكتابة (ح1)

ذ. يونس الناصري

هوية بريس – الأربعاء 26 مارس 2014

لقد هام جل الباحثين والقراء في عصرنا الحالي في بحر الصفحات الاجتماعية وما جاورها من مواقع إلكترونية لا عد لها، في عالم افتراضي فيه منافع لمن عرف كيف تؤكل الكتف، وفيه من البوائق الشقاشق الشيء الكثير، بل إن ضرر الفيس على الناس قد يغلب نفعه، كيف لا؟ والدراسات توصلت إلى أن نسبة الانفكاك الأسري تضخمت بسببه؛ إذ انهمك الزوجان والأولاد بعوالمهم المتوهمة الخاصة، ولم يعودوا يخلصون لأنفسهم من الوقت إلا قليلا.

من أجل ذلك كان واجبا علينا أن نستيقظ ونوقظ بعضنا من غفلة الأنترنت، ونعود أدراجنا إلى عالم الكتب الرحب الفسيح الناصع الحقيقي؛ لنرتع في رياضه النضرة، ونرشف من عذبه النمير، كنوزا نفيسة من المعاني الجليلة، مرصعة بألفاظ بديعة رفيعة، نحيي به تراثا قد أهمله أبناؤه، ونحببه لمن بعدنا كي يُتقى فناؤه.

فقد قال الحق سبحانه: {اقرأ بسم ربك الذي خلق..}، وقال تعالى: {الرحمن، علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان}، فالقراءة يتبعها حسن التعبير والبيان لفظا وكتابة، وذلك قمة التحضر الإنساني، يقول ذياب بن سعد الغامدي في كتابه الشيق “صيانة الكتاب”: “لا شك أن الكتاب عنوان كل أمة، وديوان كل تاريخ، وحافظ كل موروث، ووعاء كل عمل، وظرف كل لحظة، فالكتاب مثال وأمثال، وعبرة وأحكام، بل هو في الحقيقة: عنوان الأمم وعزها، وتاريخ حضارتها ومجدها، وخزانة علومها وثقافتها، وحافظ دينها وأخلاقها، ووارث حكامها وأعلامها.. ووصلة ماضيها بحاضرها..” (ص:27-28 بتصرف).

وعجيب لمن لا يفتح الكتب إلا لماما، وإذا فتح بعض كتب المستشرقين ومن حذا حذوهم، ظنا منه لسخف عقله وتفاهة نفسه أنها موضة العصر وعنوان المثقف، انهال سبا وشتما وطعنا في الأسلاف، زاعما لنفسه علم الأولين والآخرين، ساحبا بساط الفضل من أسفل أهله الماضين، وأيم الله لو قرأ بإخلاص وإنصاف رسالة الشافعي على سيبل المثال لا الحصر، لألقم نفسه حجرا، ولكفانا منه سآمة وضجرا.

وآخرون تركوا تراث أجدادهم المجيد، وهرولوا وراء جرائد ساقطة العدالة لا تبدي ولا تعيد، فحجزوا مقاعد في المقاهي، ووضعوا رجلا على أخرى ليطلبوا علمها، ويشذبوا عقولهم بها، فلا جرم أن تصير مخرجاتهم كمدخلاتهم، كما قيل قديما: “البعر يدل على البعير والأثر يدل على المسير”.

قال الشيخ العلامة بكر أبو زيد رحمه الله في كتابه “الرقابة على التراث” (ص:277): “لقد فضل الله المسلمين على الكافرين بنعم عظيمة، وآلاء جسيمة، من أجلها (نعمة التراث) في شتى العلوم والمعارف الإسلامية، مما خطته أقلام المسلمين، وانفتقت عنه المفاهيم في الوحيين الشريفين، وما تفرع منهما، وما دلا عليه من علوم شتى، ومعارف جُلَّى، بقي منها على الرغم من عاديات الأيام نحو: 3000000 ثلاثة ملايين مخطوط في نحو 2000 ألفي مكتبة من مكتبات العالم”.

إن فساد كثير من العقول في زمننا هذا ناتج عن قلة الاطلاع على تراث الأسلاف، وكثرة التشدق بمناهج الغربيين المستحدثة، من علم نفس واجتماع وأنثروبولوجيا، كأن أجدادنا لم يفهموا نفسا ولا عاشوا اجتماعا، ولا خلفوا من الدراسات التاريخية ما يخلب اللب ويدهش القارئ.

ولو قرأ هؤلاء بعضا من تراث المسلمين في شتى الفنون المذكورة وغيرها من العلوم التي لم تصل الغرب إلا من طريق آبائنا، لتغيرت نظرتهم للسلف، ولبطل عجبهم وانبهارهم بالخلف.

وهذا الذي ابتُلينا به دفع المفكر البحاثة طه عبد الرحمن ليقول: “لم يكن يخطر على قلبنا من ذي قبل أن نخوض بحر التراث، طلبا لإظهار ما عظم من مزاياه، ولتمحيص ما شاع من الأقوال القادحة فيه، إيمانا منا بأن التراث كان ولم يزل روحا لا حياة لفكر دونها، إلا أن يلقي بنفسه في أحضان تراث غيره يستلبه استلابا ” (تجديد المنهج في تقويم التراث، ص:9).

لقد زعمت المنظومات التربوية أنها تسعى إلى إصلاح التعليم وانتشاله من وحل التخلف والجهل اللذين أطبقا عليه من كل الجنبات، فوجهت وجهتها إلى كثرة المقررات لجني الأموال، واستنسخت مناهج غربية أكل عليها الدهر وشرب، وأسقطتها على واقع لا يجد غالب تلاميذه لباسا وخفين يقيهم قر البرد وقساوة رؤوس الجبال، وفكرت في ترقيع السياج المحيط بالتعليم، وتركت التربية والتعليم يابسين قاحلين أوشكا على الاحتراق والاندثار.

الغرب ينشئ أكشاكا بجانب محطات الحافلات، مليئة بالكتب والمجلات العلمية؛ ليطلع عليها الركاب في انتظار وصول وسائل النقل، كسبا للوقت فيما يعود بنفع على المواطن المثقف الواعي، وكثير من مؤسساتنا لا خزانات فيها

وبعض الأحياء في الغرب تخصص خزانات مجانية لكل محب للقراءة والعلم، يملأها الناس بما عندهم من كتب في مكتباتهم الخاصة، ليستفيد منها بنو جلدتهم، شريطة أن يرجع القارئ الكتاب إليها بعد الانتفاع به، وهكذا يفيدون ويستفيدون، ويصنعون ويبتكرون ويشجعون فلذات أكبادهم على العلم، ومؤسساتنا تخلو من شيء اسمه “الكتب”.

فكل إصلاح لا هم له في إعمار الخزانات ونشر العلم الصحيح والمعرفة النافعة في أوساط المعلمين والمتعلمين، مصيره إلى زوال، وزيادة في التخلف والتقهقر، وتشرذم ثقافي عويص، يضاف إلى ما وصلناه من تبعية عمياء في كل شيء، إلا فيما سيعود علينا بنفع خالص.

يتبع بحول الله وقوته..

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M