ميزان الاعتدال في نقد الرجال (ح5)

09 مارس 2015 23:28
ميزان الاعتدال في نقد الرجال (ح5)

ميزان الاعتدال في نقد الرجال (ح5)

ذ. حماد القباج

هوية بريس – الإثنين 09 مارس 2015

ميزان الاعتدال في الرد والنقد (ج 1)

أعني بميزان الاعتدال: منهاج (أي: طريقة) الأئمة (أي: الذين اتفقت الأمة على إمامتهم) في الرد على المخالف للسنة والتحذير من أخطاءه.

ويتأسس هذا المنهاج على أقوال تأصيلية ومواقف عملية؛ تبرز أن واجب النقد والرد والتقويم؛ له منهجية علمية والتزامات أدبية؛ تنأى به عن الفوضى الفكرية والأخلاق القاسية التي وقع فيها وتلبس بها بعض الشيوخ والطلبة.. 

والحاجة ماسة لبيان هذا المنهاج؛ في ظل الغلو الحاد الذي طرأ على هذا الباب من أبواب الدين، لا سيما أن أيادي سياسية ماكرة وظفت هذا الغلو؛ لهدم دعوات إصلاحية، وإسقاط علماء ودعاة ومصلحين لهم فضل كبير وأثر جليل..  

إنها فوضى عارمة؛ تجرأ في أجواءها المرَضية: الرويبضاتُ والمجاهيلُ على العلماء الربانيين والمصلحين المناضلين؛ باسم الذب عن الدين والسنة، والتحذير من البدعة وأهلها؛ فترى الطالب الغارق في أوحال الجهل المركب، يناطح جبال العلم ورجالات الدعوة، ويصف الواحد المعيَّن منهم؛ بأقذع الأوصاف ويحكم عليه بأقسى الأحكام..

ونظرا لما لهذه الظاهرة من آثار سلبية على العلم وأهله، وعلى الدين ورسالته؛ فقد قاومها علماء السلف، وأحكموا إغلاق باب هذا الواجب؛ فلا يلجه إلا من استوفى شروطه واستكمل مؤهلاته:

قال  الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى:

“لا يرجع في التعديل إلا إلى قول عدل رضا، عارف بما يصير به العدل عدلا والمجروح مجروحا”[1].

وقال فيمن يقبل جرحه: “إن كان الذي يرجع إليه في الجرح عدلا مرضيا في اعتقاده وأفعاله، عارفا بصفة العدالة والجرح وأسبابهما، عالما باختلاف الفقهاء في أحكام ذلك، قبل قوله”[2].

وقال الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى:

“ولا سبيل إلى أن يصير العارف الذي يزكى نقلة الأخبار ويجرحهم جهبذا؛ إلا بإدمان الطلب والفحص عن هذا الشأن وكثرة المذاكرة والسهر والتيقظ والفهم مع التقوى والدين المتين والإنصاف والتردد إلى مجالس العلماء والتحري والإتقان وإلا تفعل:

فدع عنك الكتابة لست منها… ولو سودت وجهك بالمداد

قال الله تعالى عز وجل: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] فإن آنست يا هذا من نفسك فهما وصدقا ودينا وورعا وإلا فلا تتعن، وإن غلب عليك الهوى والعصبية لرأي ولمذهب؛ فبالله لا تتعب، وإن عرفت أنك مخلط مخبط مهمل لحدود الله فأرحنا منك فبعد قليل ينكشف البهرج وينكب الزغل ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله فقد نصحتك”[3].

وقال أيضا:

“والكلام في الرجال لا يجوز إلا لتام المعرفة تام الورع” اهـ[4].

وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى:

“لا بد في هذا العلم من طول الممارسة، وكثرة المذاكرة، فإذا عدم المذاكر به، فليكثر طالبه المطالعة في كلام الأئمة العارفين كيحيى القطان، ومن تلقى عنه كأحمد وابن المديني، فمن رزق مطالعة ذلك وفهمه وفقهت نفسه فيه وصارت له فيه قوة نفس وملكة، صلح له أن يتكلم فيه” اهـ[5].

فهاك أخي طالب العلم والنجاة؛ مواقف القدوة ومناطات الاهتداء في هذا المسلك الوعر والمعترك الخطير؛ مقتبسة من أئمتنا الذين جمعوا بين واجب رد الخطأ والمذاهب المنحرفة ونصح أصحابها والتحذير من الوقوع في مخالفاتهم، وبين خُلق الرحمة بالمخطئ ومخاطبته بالكلمة الطيبة، وحفظ مقامه وشكر جهوده إن كان من العلماء والدعاة إلى الله تعالى، والرواية عنه والتحديث بمروياته إن كان من المحدّثين؛ فإن هذا السلوك أدعى إلى رجوع المخطئ واهتداء الضال، وتأليف القلوب على السنة والاتباع، وجمع شمل الأمة على كلمة سواء.

بعيدا عن خطاب الفظاظة والغلظة وخلق القسوة والشدة وسلوك الهدم والإسقاط.

الإمام أحمد بن حنبل (ت 241هـ):

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:

“مع أن أحمد لم يكفر أعيان الجهمية ولا كل من قال إنه جهمي كفره، ولا كل من وافق الجهمية في بعض بدعهم؛ بل صلى خلف الجهمية الذين دعوا إلى قولهم وامتحنوا الناس وعاقبوا من لم يوافقهم بالعقوبات الغليظة لم يكفرهم أحمد وأمثاله؛ بل كان يعتقد إيمانهم وإمامتهم؛ ويدعو لهم”[6].

وقال[7]:

“ثم إن الإمام أحمد دعا للخليفة وغيره؛ ممن ضربه وحبسه واستغفر لهم وحللهم مما فعلوه به من الظلم والدعاء إلى القول الذي هو كفر.

ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لم يجز الاستغفار لهم؛ فإن الاستغفار للكفار لا يجوز بالكتاب والسنة والإجماع.

وهذه الأقوال والأعمال منه ومن غيره من الأئمة صريحة في أنهم لم يكفروا المعينين من الجهمية الذين كانوا يقولون: القرآن مخلوق وإن الله لا يرى في الآخرة” اهـ.

وقال الإمام الحميدي رحمه الله:

“كان أحمد بن حنبل قد أقام عندنا بمكة على سفيان بن عيينة، فقال لي ذات يوم: هاهنا رجل من قريش، له بيان ومعرفة.

فقلت له: فمن هو؟

قال: محمد بن إدريس الشافعي، وكان أحمد بن حنبل قد جالسه بالعراق، فلم يزل بي حتى اجترني إليه.

وكان الشافعي قبالة الميزاب، فجلسنا إليه، ودارت مسائل.

فلما قمنا؛ قال لي أحمد بن حنبل: كيف رأيت؟

فجعلت أتتبع ما كان أخطأ فيه، وكان ذلك مني بالقرشية يعني: من الحسد.

فقال لي أحمد بن حنبل: فأنت لا ترضى أن يكون رجل من قريش يكون له هذه المعرفة وهذا البيان؟!

تمر مائة مسألة يخطئ خمسا أو عشرا؛ أُتركْ ما أخطأ، وخذ ما أصاب”[8].

وقال الحافظ أبو حاتم الرازي رحمه الله:

“حادثت أحمد بن حنبل فيمن شرب النبيذ من محدثي أهل الكوفة؛ وسميت له عددا منهم؟

فقال: هذه زلات لهم لا نسقط بزلاتهم عدالتهم” اهـ[9].

الحافظ ابن حبان (ت 354 هـ):

قال رحمه الله:

“ولو عمدنا إلى ترك حديث الأعمش وأبي إسحاق وعبد الملك بن عمير وأضرابهم لما انتحلوا، وإلى قتادة وسعيد بن أبي عروبة وابن أبي ذئب وأسنانهم لِما تقلدوا، إلى عمر بن درّ وإبراهيم التيمي ومسعر بن كدام وأقرانهم لِما اختاروا؛ فتركنا حديثهم لمذاهبهم؛ لكان ذلك ذريعة إلى ترك السنن كلها حتى لا يحصل في أيدينا من السنن إلا الشيء اليسير”[10].

قال: “ومن الذي يتعرى عن موضع عقب من الناس أو من لا يدخل في جملة من لا يلزق فيه العيب بعد العيب؟؟

والمحسود أبدا يقدح فيه؛ لأن الحاسد لا غرض له إلا تتبع مثالب المحسود، فإن لم يجد ألزق مثله به” اهـ[11].

الحافظ ابن عبد البر (ت 463 هـ): 

قال رحمه الله تعالى[12]:

“وأفرط أصحاب الحديث في ذم أبي حنيفة رحمه الله وتجاوزوا الحد في ذلك، والسبب الموجب لذلك عندهم إدخاله الرأي والقياس على الآثار واعتبارهما، وأكثر أهل العلم يقولون: إذا صح الأثر من جهة الإسناد بطل القياس والنظر، وكان رده لما رد من الأحاديث بتأويل محتمل، وكثير منه قد تقدمه إليه غيره وتابعه عليه مثله ممن قال بالرأي، وجل ما يوجد له من ذلك ما كان منه اتباعا لأهل بلده كإبراهيم النخعي وأصحاب ابن مسعود إلا أنه أغرق وأفرط في تنزيل النوازل هو وأصحابه والجواب فيها برأيهم واستحسانهم، فيأتي منهم من ذلك خلاف كثير للسلف وشنع هي عند مخالفيهم بدع.

وما أعلم أحدا من أهل العلم إلا وله تأويل في آية أو مذهب في سنة، رد من أجل ذلك المذهب بسنة أخرى بتأويل سائغ أو ادعاء نسخ، إلا أن لأبي حنيفة من ذلك كثيرا، وهو يوجد لغيره قليلا”.

وقد ذكر يحيى بن سلام قال: سمعت عبد الله بن غانم في مجلس إبراهيم بن الأغلب يحدث عن الليث بن سعد أنه قال:

“أحصيت على مالك بن أنس سبعين مسألة، كلها مخالفة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مما قال فيها برأيه.

قال: ولقد كتبت إليه أعظه في ذلك”.

قال أبو عمر: “ليس أحد من علماء الأمة يثبت حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يرده دون ادعاء نسخ ذلك بأثر مثله أو بإجماع أو بعمل يجب على أصله الانقياد إليه أو طعن في سنده، ولو فعل ذلك أحد سقطت عدالته فضلا عن أن يتخذ إماما ولزمه اسم الفسق؛ ولقد عافاهم الله عز وجل من ذلك.

ونقموا أيضا على أبي حنيفة الإرجاء، ومن أهل العلم من ينسب إلى الإرجاء كثير لم يُعنَ أحد بنقل قبيح ما قيل فيه؛ كما عنوا بذلك في أبي حنيفة لإمامته.

وكان أيضا مع هذا يحسد وينسب إليه ما ليس فيه ويختلق عليه ما لا يليق به وقد أثنى عليه جماعة من العلماء وفضلوه” اهـ[13].

يتبع إن شاء الله تعالى..



[1]الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي (ص:99).

[2]المصدر نفسه (ص:100).

[3]تذكرة الحفاظ للذهبي (1/10).

[4]ميزان الاعتدال (3/46).

[5]شرح علل الترمذي (1/126).

[6]مجموع الفتاوى (7/507).

[7]مجموع الفتاوى أيضا (12/489).

[8]آداب الشافعي ومناقبه (ص:34).

[9]المسودة في أصول الفقه (ص:265).

[10]صحيح ابن حبان (1/160).

[11]الثقات لابن حبان (8/26).

[12]جامع بيان العلم وفضله (2/1080).

[13]جامع بيان العلم وفضله (2/1081-1080).

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M