الفرنكفونية إيديولوجية اليمين المتطرف في ما وراء البحار

19 ديسمبر 2015 22:39
الرموز العرقية بديلا للرموز الوطنية.. من العلمانوية العرقية إلى مشروع التنصير العرقي

د. إدريس جنداري (باحث)

السبت 19 دجنبر 2015

– الإهانة الحضارية.. من الاستعمار العسكري إلى الاستعمار الثقافي

 عندما اندلعت أحداث الربيع العربي، كان الشعار الذي يتردد، من مشرق العالم العربي إلى مغربه، هو “الكرامة” كرامة الأفراد والجماعات، مما يعني أن الداء العضال الذي كانت تعاني منه الشعوب العربية يتعلق بداء “الإهانة ” هذا الداء الذي كان يؤذن، منذ عقود، بخراب قادم لا محالة، وقد كان عالم المستقبليات( المهدي المنجرة) واعيا بهذا الخطر حينما ألف كتابه التحذيري (الإهانة في عهد الميغا إمبريالية) معتبرا أن المقصود بهذه الإهانة هو الامتداد الحضاري العربي الإسلامي الذي يجد نفسه، اليوم، في مواجهة حرب صليبية جديدة تسعى إلى استئصال كل ما يمت بصلة إلى العروبة والإسلام.

ولعل أكبر إهانة، واجهتها الأمة العربية في تاريخها الحديث، تتعلق بالسيطرة الاستعمارية التي وظفت كل أدوات الاستئصال الحضاري لترسيخ مشروعها الاستعماري، من استئصال اللغة العربية من بيئتها الحاضنة، إلى استئصال القيم الثقافية والدينية وتعويضها بقيم استعمارية دخيلة، وكل هذا كان يدخل ضمن تصور استراتيجي، بعيد المدى، يسعى إلى الإجهاز على المشروع الحضاري العربي الإسلامي الذي تمكن، لقرون، من قيادة العالم، من آسيا إلى إفريقيا وأوربا، باعتباره مشروعا إنسانيا خالصا استطاع أن يقود حركة تحرير عابرة للحدود الجغرافية والإثنية.

 لكن القوة الكامنة في جوهر الحضارة العربية الإسلامية، كانت بالمرصاد لهذا المشروع الاستئصالي، وتم توظيف مقومات الدين والثقافة واللغة لاستعادة روح حركة التحرير، مما ساعد على تشكيل حركات تحرر وطني وقومي عابرة للحدود، تمكنت من طرد الاستعمار وإفشال مشروعه في الاستتباع الحضاري، وجميع هذه الحركات، في مشرق العالم العربي ومغربه، وظفت مقومات الهوية العربية الإسلامية لبعث روح جديدة في كيان الأمة لتحقيق مشروع التحرر.

بعد إفشال المشروع الاستعماري، عسكريا، وطرد آخر جندي من الامتداد الترابي العربي، كان التحالف الاستعماري يخطط لتدشين عودته التي كان يتصورها، هذه المرة، عودة حضارية توظف أسلحة رمزية فتاكة تخترق جسم الأمة وتبث فيه فيروسات قاتلة تفكك الجسم من الداخل من خلال التغلغل في خلاياه.

ولعل هذا، هو ما فطن له مفكر من حجم الأستاذ محمد عابد الجابري في كتابه (أضواء على مشكل التعليم في المغرب) حين اعتبر أن المشروع الاستعماري حقق استمراريته في المغرب من خلال النخبة التي تشكلت في مختبراته التعليمية، لقد كانت النخبة التي تولت زمام الأمور عقب الاستقلال هي نفسها النخبة التي تمخض عنها تعليم الحماية الفرنسية في المغرب.

 وبما أن وظيفة التعليم تتلخص في إعادة الإنتاج القيمي والمعرفي، فإن منظومة التعليم الاستعمارية وظفت التعليم لخلق جيل جديد من المواطنين المغاربة يكون قادرا على تحقيق استمرارية المشروع الاستعماري، وذلك لأن مصير هذا الجيل من المتعلمين سيكون حتما العمل مع سلطات الحماية إما في الإدارة، وإما في المؤسسات الرسمية وشبه الرسمية، الشيء الذي كان يؤهلهم لأن يصبحوا متعاونين، بشكل أو بآخر، مع الحماية الفرنسية لا ثائرين ضدها.

– بين الثقافة الفرنسية والثقافة الفرنكفونية.. بين ثقافة عصر الأنوار وثقافة اليمين المتطرف

حينما نثير الحديث، هنا، عن الاستعمار الثقافي كحلقة ثانية ضمن المشروع الاستعماري، فإن الأمر لا يتعلق بالدعوة إلى الانغلاق على الذات أو نشر مشاعر الكراهية ضد الآخر الثقافي، بل إن الأمر يتجاوز ذلك، بكثير، إنه يدخل ضمن تشكيل الوعي الفكري لدى الأجيال، التي تلت المرحلة الاستعمارية العسكرية، بخطورة المشروع الاستعماري، في بعده الثقافي، الأمر الذي يدخل ضمن التمييز بين الانفتاح الثقافي واللغوي الواعي المرغوب، وبين الاستلاب الثقافي واللغوي المرفوض. ولعل هذا، هو ما يدفعنا إلى التمييز، في الثقافة الفرنسية، بين بعدين مختلفين:

* هناك البعد الثقافي واللغوي الخالص، الذي يعتبر وليد الحركية الثقافية التي قادها كبار الفلاسفة والأدباء الفرنسيين، وشكل نتيجة ذلك نظام ثقافي أنواري، يجد سنده في مبادئ الثورة الفرنسية، وقد أنتج هذا النظام رؤية فرنسية للعالم تقوم على أساس التعددية والاختلاف والانفتاح ، وهذا ما تجسد من خلال المتن الفلسفي والأدبي الفرنسي الذي اخترق العالم كله ( ميشيل فوكو، جاك دريدا، جيل دولوز، جون بول سارتر، شارل بودلير، بالزاك، فلوبير…).

* وهناك بعد ثقافي ولغوي يعتبر امتدادا للسياسة الخارجية الفرنسية، وهذا البعد تمثله منظمة الفرنكفونية التي تعتبر وريثة وزارة المستعمرات في العهد الاستعماري العسكري، ولذلك فإنها ورثت عنها رؤيتها وأدواتها في اختراق المجال الرمزي للامتداد الإفريقي، والهدف المنشود ليس ثقافيا البتة بل استعماري في الجوهر، مع فارق بسيط هو الانتقال من الإخضاع العسكري المباشر إلى الإخضاع الرمزي غير المباشر من خلال توظيف وسائل القوة الناعمة soft power.

وضمن هذا السياق، لابد أن نذكر بأن منظمة الفرنكوفونية تمثل الطموح الاستعماري التوسعي الفرنسي في ما وراء البحار ( وخصوصا في إفريقيا) حيث تجلت البوادر الأولى لتشكيل قارة ثقافية جديدة تابعة للمتربول الاستعماري، اسمها الفرنكوفونية، وهي بضاعة ثقافية غير تابعة لقطاعي الثقافة والتعليم الفرنسيين، بل تابعة لوزارة الخارجية الفرنسية، باعتبارها تمثل المصالح الاقتصادية والسياسية الفرنسية في المستعمرات، وهذه المصالح تمر بالضرورة، حسب التصور الفرنسي، عبر صناعة ثقافية ولغوية لل(كائن) الإفريقي، بشكل يجعله كائنا ثقافيا ولغويا هجينا. فهو يسكن إفريقيا، جسديا، حيث ينتج ويستهلك، ويرتبط بفرنسا، خيالا وروحا، حيث يسعى إلى الاستهلاك والإنتاج على الطريقة الفرنسية.

إن التمييز، في الثقافة الفرنسية، بين هاتين القارتين المعرفيتين، هو ما يمكنه أن يساعدنا على الفرز بين ما هو معرفي خالص يمكن الانفتاح عليه والاستفادة منه، من منظور أن الثقافة الفرنسية الحديثة قدمت مساهمة فكرية وعلمية وفنية ثرية لا يمكن الاستغناء عنها في بنائنا الثقافي الحديث، لكن يجب الوعي بخطورة المتن الثقافي الفرنكفوني في أبعاده الإيديولوجية.

ويجد هذا التمييز مسوغه، اليوم، من داخل المشهد الثقافي والسياسي الفرنسي نفسه. فإذا كان هذا المتن الثقافي الفرنسي الأنواري يقاوم من أجل تحقيق التوازن السياسي والثقافي، داخليا، وتحقيق الإشعاع الثقافي الفرنسي، خارجيا، فإن المتن الثقافي اليميني المتطرف يشكل حاجزا صلبا في وجه هذه المقاومة الأنوارية، فهو يعيش على الحنين الجارف للقيم الاستعمارية القديمة، بما تحمله من تمجيد للذات يصل درجة الدفاع عن أسطورة النقاء العرقي الفرنسي.

ولعل هذا الصراع، الذي يجد مسوغه من داخل المشهد السياسي والثقافي الفرنسي قبل الخارج، هو الذي يدفع ما تبقى من المثقفين الأنواريين إلى دق جرس الإنذار حول خطورة الرؤية القيمية اليمينية المتطرفة الي أصبحت تغزو المنظومة الثقافية الفرنسية، منذرة بخلق صراعات ثقافية وعرقية داخلية، وتوترات سياسية سواء مع الجوار الأوربي، أو مع بعض الدول -الإفريقية خاصة- التي ينظر إليها اليمين المتطرف كمقاطعات تابعة للمتربول الاستعماري تنفذ سياسته الثقافية وتستجيب لطموحاته الاقتصادية.

ومن أبرز الأصوات الثقافية، التي ارتفعت خلال الآونة الأخيرة، نجد المفكر الفرنسي (باسكال بونيفاس) في إصدارين ثقافيين، حاول من خلالهما التمييز، من داخل المشهد الفرنسي، بين تيارين ثقافيين يجدان تجسيدهما في الحضور السياسي الفرنسي، وهذان التياران يمثلان تجسيدا للصراع القائم، داخل فرنسا، بين مثقفي الالتزام وهم في غالبيتهم يمثلون الإرث الثقافي الأنواري، وبين مثقفي الإثارة الإيديولوجية وهم في غالبيتهم يمثلون الخطاب/الممارسة اليميني/ة الاستئصالي/ة .

* بخصوص الصنف الأول، أدخله (بونيفاس) ضمن خانة مثقفي التزييف les intellectuels faussaires الذين يوجهون المشهد الثقافي الفرنسي لخدمة أجندة سياسوية رخيصة لا علاقة لها بالثقافة حتى في أبخس تجسيدها ! إنهم؛ بتعبير بونيفاس؛ يصنعون عملة ثقافية مزورة . وهؤلاء يشكلون امتدادا مباشرا لليمين الشعبوي المتطرف الذي يستثمر في نظرية المؤامرة، ويروج لأسطورة النقاء العرقي الفرنسي .

* وبخصوص الصنف الثاني، أدخله (بونيفاس) ضمن خانة مثقفي النزاهة/المثقفون النزهاء les intellectuels intègres وهم، حسب بونيفاس، أصبحوا عملة نادرة في المشهد الثقافي الفرنسي، لكنهم يقاومون من أجل إثبات قيم التعددية والاختلاف والحوار، وغالبية هؤلاء يشكلون امتدادا للقيم الفلسفية التي كرستها مبادئ الثورة الفرنسية.

 ما بين مثقفي التزييف ومثقفي النزاهة، يمكن للباحث الموضوعي أن يميز، في المتن الثقافي الفرنسي، بين المنحى الثقافي النزيه المستند إلى المرجعية المعرفية، وبين المنحى الإيديولوجي في منحاه السياسي القائم على أساس الهيمنة الرمزية المفضية إلى الهيمنة الاقتصادية والسياسية. لذلك يجب التمييز في خطاب الانفتاح الرائج في المغرب، إعلاميا وثقافيا، بين اتجاهين مختلفين:

  • من جهة، يجب دعم البعد المعرفي كمدخل لإثراء التعددية والاختلاف الثقافي، وفي هذا الصدد لا يجب احتكار المجال الثقافي من طرف الأحادية الثقافية الأجنبية مجسدة في الثقافة واللغة الفرنسية، بل يجب فتح المجال أمام مختلف الأبعاد الثقافية واللغوية العالمية التي بإمكانها إثراء التجربة المغربية. فبالإضافة إلى الثقافة الأنجلوساكسونية، لابد أن نعي أهمية المنجز الثقافي واللغوي الآسيوي -وخصوصا المنجزين الصيني والياباني- الذي يعتبر مكونا أساسيا ضمن المجال الثقافي واللغوي العالمي، سواء من منظور رمزي خالص، أو من منظور السوق اللغوية .
  • من جهة أخرى، يجب الحذر من النزوع الإيديولوجي الذي تمثله الفرنكوفونية، كإيديولوجية استعمارية، وهنا لابد من الفصل بين مجالين ثقافيين ولغويين ضمن الفضاء الثقافي المغربي، المجال الأول ذو بعد وطني تمثله الثقافة واللغة العربية المنصوص عليها دستوريا، والذي تتحمل الدولة مسؤولية حمايتها وتنميتها وتطويرها، أما المجال الثاني فهو ذو بعد أجنبي، وظيفته المساهمة في تحقيق الانفتاح الثقافي واللغوي على الخارج. وإذا كان المجال الأول مكونا أساسيا لتشكيل المشترك الهوياتي المغربي، فإن المجال الثاني لا يتجاوز كونه وسيلة لتحقيق الانفتاح، حيث تقاس هذه الوسيلة بجدواها في تحقيق الإشعاع الثقافي الوطني، خارجيا، والمساهمة في نقل التجارب العلمية والفكرية من أجل تخصيب المجال الثقافي الوطني.

هذا التوجيه المنهجي، هو وحده الكفيل بإخراجنا من الفوضى الثقافية واللغوية التي تسود الفضاء الثقافي المغربي، حيث يتم إيهام المغاربة بأن الثقافة واللغة الفرنسية مكون أساسي من مكونات الثقافة الوطنية، وهذا أكبر وهم صنعته وروجته منظمة الفرنكوفونية في المغرب وفي كافة المستعمرات الإفريقية.

وإذا كان هذا الوهم قد انطلى على مجموعة من الدول الإفريقية التي لا تمتلك عمقا ثقافيا، بل تقتصر على ثقافات محلية بسيطة، فإن الأمر صعب التحقق في المغرب، لأن المغاربة ورثة تراث حضاري عظيم تشكل في الغرب الإسلامي، على امتداد قرون، ساهموا في إنجازه إلى جانب إخوانهم من العرب المسلمين في المشرق. وهذا أكبر حاجز في وجه الطموح الثقافي الاستعماري، سواء خلال المرحلة الاستعمارية حيث تم إجهاض المشروع الفرنكفوني على يد رجالات المقاومة الوطنية، أو خلال المرحلة الراهنة حيث انغرست بذور الثقافة العربية الإسلامية في نفوس المغاربة، ولا يمكن استئصالها عبر صناعة وترويج الأوهام من طرف اللوبي الفرنكفوني.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M