الذِّهنية التضامنية.. أو قِيمة التضامنات عند المغاربة زَمن الأوبئة والأزمات
هوية بريس – عدنان بن صالح
أبانت التجربة التاريخية عن فعّالية تأثير الطاقات الحسية والمعنوية التي تُسيِّر المجتمع الـمغربي، وعن إيمان الشعب في وجود مُثُل عليا تُسنِد خلفيته الاجتماعية، وقِيم تشكِّلُ مُتَّكئاً لِسيره، وتبرز جليةً في طَوْرٍ حسّاس وذي أهمية من بين أطواره. فالمجتمع المغربي بتعدّد روافِده، وغِنى تجرِبته، ومَتانةِ تلاحُم تلك الروافد وإنْ تَـناءت بها الـجهات والتقسيم الـجغرافي، أنْتَجَ لفيفاً من القِيَم التي صارت تُشكِّل مغربيته، وأصالته، وأضحت مُحرِّكاً لطاقاته في أوقاتِ الأزمات والـمدلهمات، وأغْنَت فِكره الـجَمْعِي الذي صارَ يستحضِرُ جميع أجزاءِ البـلادِ إذا ما كان المهدِّدُ خارِجيا أو داخليا لوحدة الكيان المغربي، تُراباً وهويةً وبشَراً.
والنّاظر في المضمار الابتلائي الذي وَسَم تاريخ المغرب وشَعبه منذ قرون، إنْ في الميدان السياسي أو الاجتماعي أو العمراني؛ يَلْحَظ ثَـمَّ قِيمةً راسخة، وفاعلة، وتتجدّد آليات حضورها بتجدُّد واختلاف طَبيعة ما يُصيب المغاربة من ابتلاءات ونكبات، إنها قيمة “التضامن“.
ولــمّا كانت القيم وجوداً يُنجِب طرازا جديدا مِن التفكير الفلسفي يُعرَف بنظرية القيم أكسيولوجيا، وكان من خصائص تلك القيم أنّها مِن اختيار الإنسان، وهو وحده القادر على إخراج القِـيمة إلى حيّز الوجود الرّاهن، بوعي أو بغير وعي، فإنّ المغارِبة استقرَّ اختيارهم القِيمي وإجماعهم على “التَّضامنات” في أزمنة الأزمات، بل حتّى في الرخاء، يتضامنون استِعدادا لكلِّ الاحتمالات السيئة مُستقبَلا. وإنَّ هذه القيمة؛ لها جِذْر وحاضِر وامتداد، فالعُمْق التَّاريخي والرَّصيد الحضاري للبلاد؛ كلاهما جِذْر أو مَصدر مِن مصادر البحث عن القيم الجامعة، واستخلاصها، ومنها قيمة “التّضامن”، ويمكن ضمُّها في حُزمتين: حُزمة قيم الانتماء (والمعَبَّر عنها في الدِّفاع عن الوطن مذْ عُرِف المغربيُّ وكان، والوحدة، والانتماء العربي والإسلامي، وحبّ المذهب المالكي، الارتباط بالثوابت الكبرى للبلد، والالتحام بالقبيلة والعائلة الكبيرة وإيثارها بالعَون والمال،..)؛ وحُزمة قيم الفاعلية والمردودية وتَشمل (التَّكافل، التضامنات الاجتماعية، العمل الخيري والتطوع، نظام الوَقف..)
ثمَّ هنالكِ _ في السياق الـمعاصِر _ الدستور وما تَضَمَّـنَه مِن مُرتَكزات قيمية، يمكن حصرها في ثلاث قيمٍ أو مجموعات قِيم: قِـيَم الدِّين وتشمل أساساً (صِـيانة تلاحُم مقوّمات الهوية الوطنية، تبوّء الدين الإسلامي مكانة الصّدارة في المرجعية والتشريع، تشبُّث الشعب المغربي بالانفتاح والاعتدال وروح التسامح، الارتباط بالوحدة الوطنية متعدِّدة الروافد والملكية الدُّستورية والاختيار الديمقراطي)، قيم المواطنة وتشمل أساساً (المشارَكة والتعددية والحكامة الجيدة، إرساء دعائم مجتمع متضامن، التمتع بالأمن والحرية والكرامة والمساواة، تكافُؤ الفُرص والعدالة الاجتماعية، الديمقراطية التشاركية وربط المسؤولية بالمحاسبة، التلازم بين حقوق ووجبات الـمواطَنة)، قيم الحضارة أو الـمُشتَرَك الإنساني وتشمل (العمل للمحافظة عل السّلام والأمن في العالم، التّشبث بدولة الحق والقانون كما هو مُتعارَف عليه دوليا)..، وعليه؛ فإنَّ ثَــمَّةَ حضوراً تاريخا ممتدّا وحاضِرا، ومُستمِراً في زمن المستقبَل لقيمة “التَّـضامن”، بما يجعلها حاضِرة ومؤثِّرة في الذِّهنية الجماعية، ومُتطبِّعةٌ بها أخلاقِ الواجِب الفردي والجماعي، كلما ادلهمَّت بنا الخطوب وحاصرتنا نوائب الدَّهر، وما يزال يَصْطبِغ بها العمران البشري المغربي وهو يَغُــدُّ السَّـيـرَ نحو مُستقبلِهِ، ليَغْدُو التضامن مِن الأمور الـمتطبِّعِ بها خُلُق العائلة الوطنية المغربية كما هي متطبِّعة بخلق الكَرَم والبساطة والصِّدق والتضحية والوحدة، و”العوائد تقلِبُ طِباع الإنسان إلى مألوفها، فهو ابنُ عوائده لا ابن نسَبِه”، كما جاء عند ابن خلدون، (المقدّمة، ص: 356)، فيَضحى خُلُق “التضامن” إلْفاً مألوفاً بين الأجيال. لا مُجرَّد حِكاياتٍ عن ماضي مغرِبي مُشرِق في التلاحم والتكافل التضامني.
إنّ حاسَّة الخَير أصيلة في هذا الشعب الكريم، والتضامن أصْلُ أخلاق الخير، واستمرارُ حضوره في مشاهِدَ متكِّررة من الأزمات على امتداد تاريخ البلد وراهِنِه مؤشِّرٌ على “متابَعَة وجود الأمة المغربية، وخلود القيم الفكرية والروحية التي كوَّنَتْها”، (النقد الذاتي، ص: 101).
تَـجَسَّد التآزر والتعاون في أعقاب طاعون 1345م، رُغم ما ألحقه بالمغرب الوسيط من أضرار، حيث اضطرّت الساكنة لبيع الأبناء وافتراس الــمُخَزَّن والموجود من المؤن وكَذا لقِطط والكلاب، والفرار صوب الجِبال، وتخصيص “حارات” للموبوئين والمُصابين، وبدايات احتراف التسول والبِغاء لسدِّ الفاقة..، وقريباً من عصرنا؛ خلّدت لنا الذاكرة الشعبية المغربية خَبَر ذلكَ الحريق الهائل الذي أتى على أهمّ أسواق مدينة فاس وأكبرها، وذلك سنة 1918، فتَضَرّر الصُّناع والتجار وأصحاب مِلكيات الحوانيت والدُّور المُلاصِقة للأسواق؛ ولما كان المغرب يومئذ واقعا تحت سطوة استعمار أجنبي وضُعف الدولة المركزية وتَواضُعِ قُـدراتها على الإنجاد في النكبات؛ تدارك الموقفَ أصحاب (الحْـناطي) بفاس، من مْعَلمين وعمّال ومتعلمين وحرفيين يتعاطون مِهَنا متعددة، الذين كانت لهم هيئة ينضوون تحت لوائها، وأمين الحنطة الذي يمثِّلهم مَعية مستشاريه، فقامت (الحنطة) بأعظم عملية إسعاف وإغاثة في صفوف المصابين، وأمْـكَـنَها أنْ تُؤوي أزيد من (500) منكوب جرّاء الحريق – حسب إحصاء اعتمَده الأستاذ علال الفاسي ، ونظرا لوجود “صندوق تعاوني” خاص بهيئة الحنطة، استطاع الحرفيون الفاسيون تدبير مخلّفات الحريق، وتَهْـيء محلات جديدة للباعة والحرفيين والتجار المنكوبين، من المال الخاص بهذا الصندوق. وفي سنة 1960 استيقظ المغاربة على وَقع فاجعة زلزال أكادير، وما إنْ دوَّت صفّارات الإنذار في بعض الـمُدن؛ حتى تلَقَّفه الرأي العام الدولي والمحلي بالتعاطُفِ والقيام بالواجِب الرَّمزي والعملي، وإظهارِ مشاعِر الـمُواساة للمغرب والمغاربة..، فقد تلقَّى الملك محمد الخامِس برقيات تَعزية من الأشقاء العرب والأفارقة والمسلمين تِباعاً، كما وَرَدَت برقيات تعزية مِن نَقابة عمّال الفوسفاط بخريبكة، وبعث المكتب المحلّي للشبيبة الصِّناعية بمكناس رسالة تعزية واستعداد للتعاون، وأخرى من جمعية المدرّسين الآسفِيين إلى ولي العهد عَبَّروا فيها عن “وضْع أنفسهم رهن إشارة الواجب الوطني”، في حين عَمَّم الاتحاد الوطني لطلبة المغرب بلاغاً يُنهِي فيه إلى عموم الطلاب التوافد على مقرّ الاتحاد لإسعاف ومساعدة المنكوبين الوافِدين على العاصمة، وكان للطلبة دور فعّال أثناء النكبة؛ إذْ بادر (الاتحاد الوطني لطلبة المغرب) إلى التّطوّع بمناضليه وجَنَّد الطّلبة في الميدان لجمْعِ الإعانات النّـقدية وتهييء قاعاتٍ لاستقبال الـمُصابين، كما تَوَزَّعت أعداد أخرى مِن الطُّلاب على مُستشفيات الرباط وسلا والدار البيضاء لمساعدة الطّواقم الطبية. وبِدورهم؛ شارك تلاميذ وتلميذات مدارس (محمد الخامس) بالرباط في تقديم التبرعات المادية، ثُــمَّ كانَ أنْ فَرضت السلطات ضريبة التضامن الوطني فكان التجاوب المغربي معها واسعا ومشهودا.
واليوم؛ لا يجادِل أحد في الوقْعِ الـمُؤْلِمِ لجائحة كورونا وتأثيراتها على أفئدة المغاربة من مختلِف الشرائح، إذ نتابع يوماً على صدرِ يومٍ تنامياً مطّرِداً في أعداد الضحايا، والـمصابين، بما يعيد للأذهانِ وطأةَ أزمنة المجاعات والأوبئة والطّواعين والزلازل، غير أنَّ واقعِ الحال يُفصِحُ عن جانِبٍ مُشرِقٍ مِن العمل والمبادرة والمعنى في المجتمع، وتَداعِي الناس للعون والإغاثة وتضميد الحالات العسيرة ووهْبِ الوقتِ والمالِ والأفكار والاقتراحات..، تحدّيا للظروف، واستِجابة لداعِي الحياة القوي والمتوثِّب. إنَّ مَشاهِد التضامن والتآزُر والاقتدار المدني والميداني رُغم ما أحدثه فيروس كوفيد_19 من إفْسادٍ للعلاقات والمسافات بين أعضاء الشعب الواحد؛ ليدُلِّل بِحقٍّ على قِيمة الوحدة المركوزة في الوجدان الشعبي، وقيمة التضامن المنغرِزة جِبِلّةً وأصالةً في شعبنا الكريم، ويُبين عن دَورِ الأزمات في مُساعدة الأفراد والمجتمعات على النمّو والسُمُو، وفي إحداث انقلابٍ إيجابي في التّفكير والـسُّلوك العام.
وفي هذه المحطات التاريخية وغَيرها؛ تَداعتْ البلاد بـمُدُنِها وقُراها لمواساة الضحايا والمنكوبين والتضامن مَع من نَجا من الجوائح والأوبئة والأزمات، وبذْلِ مساعٍ جهيدة تأدية للواجب الإنساني والديني والوطني، وللتعبير عن معدِن المغارِبة الأصيل، وتضامنهم النبيل، وتلاحم العائلة الوطنية الذي لا تأكُل منه كُرور السنوات والأعوام.
إنَّ هذه القيم التي اجتمعنا عليها، تَمُدُّ بَعضها بَعضاً وتَصبُّ كمجرْى مائي في نهر عظيم، فالتضامن مِن أصل أخلاق الخير، والخيرُ داعٍ للناس كي يستديمَ توادُّهم وتراحمهم لأنّهم مُحتاجون دَوماً “إلى الـعِبارة عن المقاصِد بطبيعةِ التعاون والإجماع”، (ابن خلدون، ص:43)، والتعاون وقت الرخاء والضرّاء دلالةٌ على تحقُّق مَقصد حِفظ النفس والبدن والنّسل واستئناف العمران، والتضامن والتعاون والمؤاخاة والخير قِيمٌ حَضَّ عليها دين الإسلام الذي اختاره المغاربة وارْتَضَوه، و”المجتمع الإسلامي حسب قوانين الإسلام لا يمكن أنْ يقوم إلا على أساس الأُخُوّة والتّضامن بين الأفراد”، (علال الفاسي، ص: 250)، وستستمر قِيماً أصيلة متجدّدة الظهور كلما حَزَب شَعبنا وبلادنا طارئ أو جائحة.