رسالة عازب

02 فبراير 2024 22:40

هوية بريس – إعداد عبد الحميد بنعلي

…أما بعد، فقد بلغني كتابكم الماتع، وقولكم النافع، ووعيت ما أبديتموه من التأسف لحالي، والأسى لمآلي، وذلك دليل عناية منكم بهذا (الفتى الضائع، والهزبر الخاشع) فلكم مني كل ثناء بديع، وذكر رفيع.

وسألتموني -أدام الله ودكم-: لم آثرت الكفاح على النكاح؟، والتبتل على التبعل؟، وشظف العزبة على نعيم الصحبة؟، وكيف أنِست نفسي بأصحاب الشوارب، واستنكفت عن مداعبة الكواعب؟، بل كيف تغلبتُ على شدة الصبوة ودواعي مقارفة الحرام غالبة، والموانع من ذلك غائبة ؟.
وإنها -لعمري- أسئلة مشفقة، ومحارات مقلقة، وأنا إن شاء الله أجيبكم بما أراه كاشفا للشبهات، ومجليا لهذه المحارات، والبيان يقتضي العطف على لغة الفقهاء، واطراح قلم الأدباء؛ لأنهم بالبرهان أخلق، وبالحجة أوفق.

فأقول وبالله أستعين:

إنني ما عزمت على خِطبة فتاة إلا أوردت على خطبتها سبعة أسئلة، تشابه في عدها وطبعها قوادح العلة عند الأصوليين، فلنسمها نحن أيضا (قوادح الخطبة)

أولها: ماذا لو كانت هذه المخطوبة دميمة الخلقة لا تقر لها العين، ولا يعلق بها القلب؟.

فإن قلت: إن ذلك يزول بالنظر والرؤية؟، قلت لك: فما بال جمهور الناكحين حظهم من الخود (الحسناوات) قليل، وقد تقدم لهم النظر وطول البصر؟!!
والمرأة -يا سيدي- مولعة بالتزوير، فليس يتعسر على السوداء الفاحمة، والصفراء القاتمة، والعجوز العادمة أن تتحلى بأجمل وجه وأبهى صورة، حتى يهيم بهن جمهور الناظرين ممن استحوذت عليهم الحيرة، ولم يكن لهم بسوق النساء خبرة.

وقد عارضني بعض من يغشى مجلسكم الموقر بأن الجمال نسبي المحاسن، فمن تراها دميمة وهي ذات بعل يراها بعلها بدر الدجى وشمس الضحى، ولولا ذلك لعنس معظم النساء، وتقاتل الرجال على ذات الحسن الواحد، وذلك فساد لا يخفى.

فقلت له: إن هذا ليس موضع خلاف، وإنما الكلام في اللاتي يجمع الناس على اطراحهن ثم يصبحون وقد هاموا بهن كل هيام، حتى يبذلوا في نكاحهن كل غال ونفيس، فسكت ولم يحر جوابا.

القادح الثاني: أن تكون غير نسيبة، أي من قوم لا يتشرف الابناء بخؤولتهم، وليس يخفاكم سيدي ما في الخؤولة من خير وشر، وما فيها من استقامة حال واعوجاجه، وقد قال أكثم بن صيفي -وكان من حكماء العرب-: “يا بَني، لا يحملنكم جمال النساء عن صراحة النسب، فإن المناكح اللئيمة مُذهبة للشرف” .وقال بعض شعراء بني أسد:
وأول خبث الماء خبث ترابه
وأول خبث القوم خبث المناكح .
وما زالت العرب تفاخر بالأخوال وتهجو بها، فقالوا في المدح:
خالي لأنت ومن جرير خاله
ينل العلا ويكرم الأخوالا !
وقال امرؤ القيس:
خالي ابن كبشة لو علمتَ مكانه
وأبو يزيد ورهطه أعمامي .
ومن الأمثال السائرة: “قيل للبغل من أبوك؟، قال: خالي الفرس”
وقالوا في الذم: وهو من أقبح ما قيل:
لا تطلبن خؤولة في تغلب
فالزنج أكرم منهم أخوالا

ووجدنا هذه العادة جارية في الإسلام أيضا، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول يوم بدر في سعد بن أبي وقاص: (هذا خالي فليرني امرؤ منكم خاله).

القادح الثالث: أن تكون هذه المخطوبة سيئة الأخلاق، ضيقة العطن، غضوبة عبوسة لا تضحك |ذا قام داعي الضحك، فكيف إذا انعدم !!

ولا يَعرف هذا القادحَ في النساء إلا أهلوهن، وهم كاتمون له متواصون بكتمانه حذرا أن تعنس عندهم، ورجاء في التخلص منها ولو بغش الخاطب.
وليس يخفى على مثلكم – وأنتم من جرب من كل ألوان الجواري – ما في غضب النساء من نقص التمتع بهن، بل ما فيه من شر مستطير، حتى لقد أجهز أمثالهن على رجال أشاوس لا تقف لمثلهم الأبطال الأشداء، فما أكثر فيهم من صرعى مهاريز، وشهداء المقالي.

القادح الرابع: أن تكون غير دَيّنة، بل فاسقة منحرفة، وهذا لعمري أقبح ما يمكن أن يمنى به ناكح؛ فإنها إن كانت خفيفة الدين (لم ترد يد لامس)، ولم يكن معها ما يمنعها من خيانة الزوج، وسقي زرعه بماء غيره.

وكم حمل فسوق نسوان على أن سحرن أزواجهن بفنون من التعاويذ والتمائم والمآكل الخبيثة حتى لتجد الرجل العاقل الشديد وقد صار في يد إحداهن مثل البس الأليف يصدر عن رأيها ولا يعصي لها أمرا ولا نهيا.

هذا الى ما في فقد الدين من جراءتها على الزوج، وعصيانه في المعروف، وإفساد ذريته، وقد عُلم من مجاري العادات أن فساد الذرية من فساد أمهم وصلاحهم من صلاحها.

وكيف يكون حال من تزوجها فاسقة إذا هو سافر عنها وأطال الغيبة؟، بل كيف حاله إذا توفاه الله وله منها بنين وبنات ؟

فهذا فساد لا سبيل للمخاطرة به الا من غافل شديد الغفلة.

وقد رأينا في الصالحين من أعماه جمال الفاسقة عن قبحها، فتزوجها وزعم أنه يأطرها على الدين حتى يجتمع له حسنان، {فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء الظالمين}.

القادح الخامس: أن تكون عقيما، أو مقلة من الولد، ومعلوم أن المقصود الأعظم من النكاح هو ابتغاء الولد وتكثير النسل حسبما جاء في الأخبار والأحاديث المعلومة.

وهذا قادح خفي لا يمكن الاهتداء له، والطلاق بكل حال ليس حلا لتجاوزه إلا بخسائر فادحة ولا قوة إلا بالله.

القادح السادس: أن تكون مفضاة، أي ثيبا لا بكارة لها إما من زنا أو اغتصاب، وهذا لعمري وسواس أكثر منه أن يكون قادحا، ولكنه قد كان سببا في إحجام كثير من العزاب عن الزواج في بعض البلاد التي يغلب فيها الفجور على العفة، فلنجعل هذا القادح ضعيفا لغلبة الحصانة على نساء المسلمين، ولنتجاوزه إلى.

القادح السابع: وهو أن يكون الخاطب نفسه غير مناسب لهذه المخطوبة، فهب يا سيدي أنك ظفرت بنادرة الزمان، النسيبة الحسيبة، ذات الصيانة والدين، جميلة الظاهر والباطن، فهي في العفة كما قال جرير:

حَصان رزان ما تُزنّ بريبة
وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
وهي في الجمال كما قال كثير عزة
ولو أن عزة خاصمت شمس الضحى
في الحسن عند موفق لقضى لها
وهي في القد والرشاقة كما قال المتنبي
وخصر تثبت الأبصار فيه
كأن عليه من حَدَق نطاقا
وهي في جمال الطرف كما قال جرير
إن العيون التي في طرفها حور
قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
أو حيث يقول أبو الطيب
وطرف إن سقا العشاق كأسا
بها نقص سقانيها دهاقا
وهي في تمام الخلقة كما يقول الأعشى
هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة
لا يشتكى منها قصر ولا طول
أو حيث يقول ابن أبي بكر الصديق
لها منطقٌ جزلٌ ورأيٌ ومنصبُ
‏وخلقٌ سويٌّ في حياءٍ ومصدق
وهي في عذوبة المنطق وأنس الحديث كما يقول ابن الرومي
وحديثها السِّحر الحلال لو أنّه
‏لم يجنِ قتلَ المسلم المتحرّز
‏إن طال لم يُملَلْ وإن هي أوجزتْ
ودّ المحدّث أنّها لم توجز

هب يا مولانا أدام الله نعماءكم أني ظفرت بمن هذه نعوتها، فكيف يكون حالها هي إذا رأت أني لا أواتيها ؟! على أن المرأة إذا بلغت في الكمال مبلغا ترفعت عن جمهور الرجال، ورأت في أجملهم وجها وأرفعهم منصبا أنه لا يكافئها، فكيف بمن هو في مثل حالي ؟

فلهذه القوادح السبعة آثرت الكفاح على النكاح، ورأيت السلامة أولى بي من الندامة.

وكأني بك تعجب من هذه الخاطرة، وتقول: لو أن الناس قنعوا بما قنعتَ به لانقطع النسل، وانقرض البشر .

وهو فرض صحيح في الفكر عديم في النظر، لأن جمهور الناكحين لا يعبؤون بالنسب ولا بالدين ولا ينشدون في المرأة غير جسمها، فلذلك استمر بنو آدم وتناسلوا من غير انقطاع.

فهذا ما عندي في جواب كتابكم الكريم، فإن أسعفكم الوقت بمثله، فأتحفوا به، فإني رأيت لكلام نورا مبينا.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

حرره خادم جنابكم المخلص أبو اليقظان الصنهاجي ليلة السبت لعشر بقين من شهر رجب المحرم من عام خمسة وأربعين أربعمائة وألف.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M