من أسباب التباغض والتشاحن: المراء والجدال المذموم(2)

06 مارس 2023 19:23
الإجهاض.. حرية شخصية أم ضرورة شرعية؟

هوية بريس – د.محمد ويلالي

لا يزال الموضوع مرتبطا بتلك الخصلة الجليلة، التي تعتبر مفتاح السعادة، وسبيل الطمأنينة، وهي “سلامة الصدر”. فعرفنا أن هناك وسائل كثيرة لتحقيق هذه الخصلة، ودفع ما يجري بيننا من خصومات، وتشنجات وعداوات، فبدأنا بأشدها وأقواها، وهي: “نزغ الشيطان”، حيث ذكرنا جملة  من الأسباب المعينة على طرد الشيطان، وتفادي نزغه ووسوسته.

ونود أن نقف ـ في هذا الجزء ـ على ثاني هذه الأسباب الموغرة للصدور، والمثيرة للفتن والإحن، وهو: المِراء، وما يترتب عليه من الجدال المذموم، الذي يكون في الباطل، لقصد الانتصار للنوازع الذاتية، والآراء الشخصية.

أما المراء، فقال فيه الجرجاني: “طعن في كلام الغير لإظهار خلل فيه، من غير أن يرتبط به غرض سوى تحقير الغير”. وهو مخاصمة في الحقِّ بعد ظهوره.

وأما الجدالُ المذموم، هو الخصومة ومراجعة الكلام، بما يشغل عن ظهور الحق ووضوح الصواب، مأخوذ من جَدْلِ الحبلِ، أي: إِحكامُ فتله، وكأن المتجادِلَيْن أحدهما يفتل صاحبه عن رأيه. وقيل: معناه: صَرْع وإسقاط أحدهما الآخر على الجَدالَة، وهي الأرض الصُّلبة. وفيه يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلاَّ أُوتُوا الْجَدَلَ”. ثم تَلاَ هَذِهِ الآيَةَ: (مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ)” صحيح سنن الترمذي. وقد عد الإمامُ الذهبي هذا النوعَ من الكبائر.

وقد يشرح الجدال بالمراء، كما في قوله ـ تعالى ـ: (فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ). قال ابن مسعود ضي الله عنه: “أن تماري صاحبك حتى تغضبه”.

وعلق القاري ـ رحمه الله ـ على قوله ـ تعالى ـ: (مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) فقال: “قيل: المراد هنا: العِناد. والمراء في القرآن: ضربُ بعضه ببعض، لترويج مذاهبهم، وآراء مشايخهم، من غير أن يكون لهم نصرة على ما هو الحق”.

والأصل في المسلم أنه سَمْح لين، يقبل الحق، ويذعن له، ولا يجد غضاضة في الاعتراف بخطئه، والانقياد إلى صواب رأي غيره. قال الحسن البصري ـ رحمه الله ـ: “المؤمن يداري ولا يماري، ينشر حكمة الله، فإن قُبلت، حمد الله، وإن رُدَّت، حمد الله”.

ومن جميل قول عبد الرحمن بن أبي ليلى: “ما مَارَيتُ أخي أبدًا؛ لأني إن مَاريتُه، إمَّا أن أُكَذِّبه، وإمَّا أن أُغضبه”.

وَاحْذَرْ مُجَادَلَةَ الرِّجَالِ فَإِنَّها * تَدْعُو إِلَى الشَّحْنَاءِ وَالشَّنَآنِ

أما المماحكة والمماراة، فمن أمراض القلوب، التي لا يركبها إلا ضعاف النفوس، الذين يستمرئون الخصومات، وإشعال نار العداوات. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللهِ: الأَلَدُّ الْخَصِمُ” متفق عليه. قال الإمام النووي ـ رحمه الله ـ: “والألدُّ: شديد الخصومة، مأخوذ من لَدِيدَيِ الوادي، وهما جانباه؛ لأنَّه كلما احتجَّ عليه بحجة، أخذ في جانب آخر. وأما الخَصِم، فهو الحاذق بالخصومة. والمذموم، هو الخصومة بالباطل في رفع حقٍّ، أو إثباتِ باطل”.

قال محمد بن الحسين: “وعند الحكماء: أنَّ المراء أكثره يغيِّر قلوب الإخوان، ويُورث التفرقة بعد الألفة، والوحشة بعد الأنس”.

وفي المقابل، رفع الله مكانة من يترك الجدال والمراء وإن كان على الحق، حفاظا على ود الصحبة، وتمتينا لرباط الأخوة. قال صلى الله عليه وسلم: “أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ” صحيح سنن أبي داود. قال السندي ـ رحمه الله ـ: “من ترك المراء: أي: الجدال، خوفًا من أن يقع صاحبه في اللَّجاج المُوقِع في الباطل”.

ومَن تمكن الجدال منه، واستولى المراء على أحواله، كثر صخبه، وارتفع صوته، وانتفخت أوداجه، وأغضب صاحبَه، وفي المقابل، قل عملُه، وضعفت عزيمتُه، وخارت قوى الخير لديه.

قال الأوزاعي ـ رحمه الله ـ: “إذا أراد الله بقوم شرًّا، ألزمهم الجَدل، ومنعهم العَمل”.

وقال بلال بن سعد ـ رحمه الله ـ: “إذا رأيت الرجل لجوجًا، مماريًا، معجَبًا برأيه، فقد تمت خسارته”.

وقال الأصمعي ـ رحمه الله ـ: “سمعت أعرابيًّا يقول: من لَاحَى الرجالَ وَمَارَاهم، قلَّت كرامتُه. ومن أكثر من شيء، عُرفَ به”.

ومن جميل أقوال الإمام مالك ـ رحمه الله ـ، قوله: “المِراء يُقَسِّي القلوب، ويُورث الضغائن”.

فلا تعجب إن سمعتَ بين الفينة والأخرى الأخبارَ المحزنة، التي تترتب على الجدل والمراء، من ذلك جريمة القتل بإحدى مدننا، التي وقعت قبل قرابة ثلاثة أسابيع، راح ضحيتها شاب يبلغ من العمر 35 سنة، بسبب مشادَّة كلامية تافهة مع شخص خمسيني. وجريمة قتل أخرى وقعت قبل مدة قصيرة، بسبب جدال حول لفافة سجائر، وامرأة تطعن زوجها ابنَ 62 سنة فترديه قتيلا، بسبب جدال ساخن بينهما، وآخر يوقف سيارته أمام متجر، فيرتفع الجدال بينه وبين صاحب المتجر، فتحدث جريمة القتل.

أمَّا المُزاحةُ والمِراءُ فدَعْهما * خُلُقان لا أرضاهما لصديقِ

إني بلوتُهـما فلم أحمدْهُـما * لمجـاور جــارًا ولا لرفيـقِ

وكان الإمام مالك ـ رحمه الله ـ يكره أن يجادله أحد في الدين، ونصوصُ الكتاب شاهدة على الحق، وكان يقول: “كلما جاء رجل أجدلُ من رجل، تركنا ما نزل به جبريلُ على محمد عليه السلام لِـجَدَله؟”.

هذا الذي ذكره الإمام مالك ـ رحمه الله ـ، هو عين ما صرنا نراه اليوم في بعض القنوات والمواقع، حيث يطلع علينا متطفلون على الدين، يمعنون في نصوص الكتاب والسنة جدلا، وتأويلا، يضلون الناس عن هدي السلف، الذين كانوا أحرص منا على اتباع الحق، والدعوة إليه، ويرمون المفسرين الكبار بالجهل وقلة الفهم، وأن العالَم تغير وتطور، ولا بد من فهم جديد للقرآن والسنة، وما هو إلا التحريض على الخروج عن ثوابت المسلمين، وعقيدة المؤمنين، ومنهج التابعين من المتشبثين بغرز السابقين.

يقول صلى الله عليه وسلم: “مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ، أَوْ لِيُبَاهِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ، أَوْ لِيَصْرِفَ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ، فَهُوَ فِي النَّارِ” صحيح سنن ابن ماجة.

ويقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “سيأتي أناس يجادلونكم بشبهات القرآن، فخذوهم بالسُّنن، فإن أصحاب السُّنن أعلم بكتاب الله”.

ولذلك وجب على الآباء والأمهات الحرصُ على توجيه أبنائهم وبناتهم إلى معرفة العقيدة الصحيحة، المبنية على الكتاب والسنة، بفهم أئمة الأمة المعتبرين، فذلك العاصم من زلل المغرضين، وخطر المتربصين، وأن يُعَوِّدوهم آداب الحوار، واللينَ في الكلام، وتجنبَ المناظرات الساخنة، والحوارات التافهة.

لذوي الجدال إذا غَدَوا لجدالهم  * حُجَجٌ تَضِلُّ عن الهدى وتَجُورُ

وُهُنٌ كآنِيَةِ الزُّجاج تَصَادمتْ * فهوَت، وكلٌّ كاسرٌ مَكْسـورُ

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M